تعتبر المنظومة التشريعية أحد الإشكالات المثيرة في سياق التحليل الإجمالي للسياسة العمومية بقطاع الصيد البحري وتربية الأحياء المائية وأحد عناصر ملفات الأوراش الإصلاحية المثيرة من أجل تصحيح الإختلالات الجوهرية العميقة التي أفرزها اقتصاد الريع واستنزاف الثروة السمكية والتي صارت مادة مفتوحة في اختبارات مستمرة لمعاني ودلالات تجسيد ملكية الدولة لقرارات سيادية على مصاييدها البحرية وتضمن بحق المحافظة على قوت ورزق البحر للأجيال القادمة وتقطع مع سياسة الاغتناء غير المشروع على حساب الثروة السمكية وعلى حساب التنمية الاقتصادية والاجتماعية المحلية والوطنية.
وقد سبق لإستراتيجية أليوتيس للصيد البحري التي أطلقها السيد عزيز أخنوش رصد عوائق تنمية وتطور القطاع، من خلال تشخيصها الموضوعي لتشتت المنظومة القانونية لقطاع الصيد البحري، وتقادم كثير من مقتضياتها القانونية . بيد أن هذا التشخيص الإستراتيجي لم يترتب عنه الألية الإجرائية المقابلة له والمتمثلة في الإصلاح الشامل للمنظومة القانونية التشريعية لقطاع الصيد البحري. مما جعل مخرجات النتائج القانونية لإستراتيجية أليوتيس في غير مستوى درجة مدخلاتها وعناصر تشخيصها لنظام التشريع القانوني المتقادم لقطاع الصيد البحري.
وبغض النظر بهذا الصدد عن أي تشكيك في أهمية الإجراءات التدبيرية والإصلاحات التشريعية المقدرة التي واكبت هذه الإستراتيجية بهدف المحافظة على الثروة السمكية ومحاربة الصيد المحظور والنهوض بتربية الأحياء المائية . ودون حاجة إلى الاستغراق الزمني في قفص الاتهام و الإشارة البارزة إلى وجود كوابح ومصالح لوبيات اقتصادية ضيقة حالت دون إخراج مشروع قانون رقم 17.00 يتعلق بمدونة الصيد البحري والمحافظة على الأنظمة البيئية البحرية، رغم ميزة وخصوصية الإعداد التشاوري له والتنويه بمضامينه من طرف منظمات دولية كمنظمة الأمم المتحدة للتغذية والزراعة.
وفي سياق نفض الغبار عن مشروع مدونة الصيد البحري لسنة 2004 لابد أن نثير أهمية وتميز صياغتها بمقاربة إصلاحية شمولية تراعي تجميع وتبسيط اللمنظومة القانونية لقطاع الصيد البحري بمنظور عولمي لا يهتم فقط بانشغالات استغلال الموارد السمكية البحرية كما هو حال الإطار القانوني الحالي المعقد في كثير من جوانب تشتت مقتضياته وتعدد إحالاته وإحالة إحالاته على الإحالات. دون إغفال الإشارة الضرورية إلى ارتكازها على قاعدة سيادية استراتيجية على الثروة السمكية الوطنية بملكية الدولة للموارد البيولوجية البحرية وإثارة مسؤوليتها في حفظ استدامتها للأجيال القادمة بالتدبير العقلاني والرشيد المستوعب لمجال حماية البيئة البحرية وتنمية الأصناف البحرية مع خاصية تقدير وتعزيز البعد الإنساني والاجتماعي للبحارة وظروف عيشهم وعملهم في كثير من مقتضياتها التشريعية.
لقد بات ورش إخراج مدونة عصرية جامعة عادلة ومنصفة بقطاع الصيد البحري مفتوحا من جديد يسائل قدرة صناع القرار السياسي التشريعي بقطاع الصيد البحري على التفاعل الإيجابي مع تدفقات المطالب والتطلعات المهنية وغير المهنية الواردة في هذا الشأن بهدف حفظ معادلة توازن المصالح البيولوجية للموارد السمكية والمصالح الاقتصادية للمستثمرين الخواص وكذا المصالح القانونية والاجتماعية للبحارة العاملين بقطاع الصيد البحري.
ومن المعلوم أن الدستور المغربي الجديد قد أحال مسؤولية النظر في المقتضيات التشريعية في نظام الصيد البحري إلى مجال القانون الذي توسع نطاقه في سياق المرحلة الدستورية والسياسية الجديدة على قاعدة تنظيم توازن الإختصاصات بين السلط وتفادي هيمنة المجال التنظيمي التنفيذي لقطاع الصيد البحري على حساب السلطة التشريعية البرلمانية ، حيث يفترض فيها المبادرة لوضع القواعد القانونية المرجعية الصلبة لهذا القطاع الحيوي وعدم الالتفاف على منطق تحنيط مقتضياته التشريعية المتقادمة والمستفزة أحيانا للشعور الوطني، مثلما هو حاصل من خلال الإحالة البسيطة على فصول تشريعية، واردة على سبيل المثال في قانون 1919 المتعلق بمدونة التجارة البحرية والتي بقيت منشدة إلى مفاهيم ومعطيات ما قبل الاستقلال. بما لا يمنع من التأكيد على نجاعة وتقدمية بعض مقتضياتها التي تم استسصحابها في كل الأحوال في نطاق فحوى مشروع 2004
وإذا سلمنا بمنطلق الإجماع على غياب منظومة قانونية متجانسة وجامعة للصيد البحري وتربية الأحياء المائية بما يلائم منطق الحكامة الجيدة والشفافية المطلوبة والوضوح التشريعي المفقود وييسر للباحثين والمعنيين الإطلاع عليها بسهولة. فإننا نثير الاستمرار في منهجية التقنين التشريعي التعديلي الجزئي لمنظومة قانونية متقادمة في كثير من مقتضياتها تحاول مواكبة مستجدات قطاع الصيد البحري. وهذا ما يعكسهما ورد بخصوص مادة الإصلاح التشريعي بقطاع الصيد البحري الواردة في المخطط التشريعي للحكومة، حيث تم إدراج مشروع قانون يتعلق بمنع الصيد غير القانوني وغير المصرح به وتعديل وتتميم عدة مقتضيات قانون 1973 المتعلق بتنظيم الصيد البحري وكذا مشروع قانون يتعلق بتعديل وتتميم مقتضيات قانون 1919 مما يزيد في التقيد والتشتت التشريعي للمنظومة القانونية، لا سيما إذا وقفنا على شساعة نطاق المجال التنظيمي التنفيذي المحال عليه بموجب المشروعين المشارإليهما. والحال أن كثير من أن كثير من مقتضيات النظام التشريعي للصيد البحري الحالي تتخفى وراءها ممارسات ريعية ومصلحية ضيقة بدعم من كابحي إخراج المدونة ولوبيات الإستنزاف السمكي ومستغلي النفوذ والتحكم السلطوي البائد في زمن صار البوح بمظاهر وتجليت الفساد في قطاع الصيد البحري موجة لا يمكن ردها والتغاضي عنها في زمن مغرب الدستور الجديد.
مع الإشارة هنا إلى محدودية التعديل التشريعي لمنظومة الصيد البحري فيما يتعلق بتعزيز الحماية القانونية والاجتماعية للبحارة وضعف التفاعل الإيجابي مع ضرورة الإصلاح في هذا الشأن لمواكبة المستجدات التشريعية الموازية الواردة بالخصوص في مدونة الشغل ومقتضيات اتفاقيات وتوصيات منظمة العمل الدولية . مما قد يوحي بواقع استمرارية محاولة وأد مشروع قانون رقم 17.00 المتعلق بمدونة الصيد البحري والمحافظة على الأنظمة البيئية البحرية وتوفيت فرصة الإصلاح الشامل للمنظومة القانونية لقطاع الصيد البحري.
إن المنظومة التشريعية القانونية الحالية لقطاع الصيد البحري تفرض إثارة واقع محدودية البناء المرجعي القانوني الصلب لكثير من إجراءات ومقتضيات التدبير التنفيذي للصيد البحري فيما يتعلق بمخططات تهيئة المصاييد البحرية وفرض التصريح الإجباري بالمصطادات البحرية وتسويقها عبر وسيط عمومي وعدم ملائمة النظام التشريعي لمراقبة وزجر المخالفات وألية المصالحة مع جسامة استنزاف الثروة السمكية والمحافظة عليها مما يجعل النظام القانوني لقطاع الصيد البحري في كثير من الحالات محفز على الاغتناء غير المشروع واستنزاف الثروة السمكية. ولئن كان اليوم الدراسي المنظم بمجلس المستشارين حول “مدونة للصيد البحري عادلة ومنصفة” قد عكس روح الإجماع على مطلب إخراج مدونة جامعة للصيد البحري والمحافظة على الأنظمة البيئية البحرية وتزكية ما سبق أن طالبت به مختلف الفرق البرلمانية والأحزاب السياسية بخصوص هذا الورش الإصلاحي الشامل الذي لا يمكن إلا أن ننوه بالتفاعل الإيجابي لمختلف الفرقاء معه ، رغم هامش مساحة تحرك اللوبيات المحافظة التي ترى في كل مبادرة إصلاحية خطوة تستهدفها.
ويبقى السؤال المطروح هل سينفع الوزن الاعتباري المقدر للسيد عزيز أخنوش وزير الفلاحة والصيد البحري وجرأته في فتح ورش الإصلاح التشريعي الحقيقي وإخراج مدونة الصيد البحري مثلما أفادت تجربته في إخراج مخطط أليوتيس للصيد البحري بغض النظر عن الملاحظات الإيجابية أو السلبية التي قد تثيرها على كل حال والتي كما نعلم للتاريخ قد أغاضت في بدايتها بعض من سار أداة سلسة لتنفيذ إجراءاتها وتزكيتها . وإذ ذاك ستسجل المدونة بعد ملائمتها وتحيينها بمقاربة تشاركية في السجل الذهبي للسيد الوزير وجنود الخفاء بإدارة الصيد البحري وستعبر عن حقيقة الإرادة السياسية لصناع القرار السياسي التشريعي بقطاع الصيد البحري. كما أن مسؤولية المؤسسة البرلمانية لن تنتفي في دعم وفتح ورش الإصلاح التشريعي للمنظومة القانونية لقطاع الصيد البحري بما تملكها من وسائل ومخارج دستورية لنفض الغبار عن مجهود تشريعي وطني من العار والتيه أن يبقى محجوزا لأزيد من عشر سنوات ربما تحت ضغط أخطبوط ولوبيات الصيد البحري.
حسن اهويو، باحث في القانون والعلوم السياسية
رأي تم نشره في الموقع سنة 2014 يعاد نشره لما يحمله من مطالب تنسجم مع الظرفية