بين ممرات الأسواق الشعبية المغربية، وبين أصوات الباعة وروائح التوابل المتسللة من كل زاوية، ينبعث عبق خاص لا تخطئه الأنوف.. إنه عبق السمك المقلي ، المحضر بعفوية وشغف، الذي لا يشبه أي طبق آخر، ولا يُقارن بما تعده ربات البيوت في صمت المطابخ.
هنا، في قلب السوق، يتعالى غليان الزيت فوق صفائح الحديد الحارقة، تُقلب وسطها شرائح “الصمتة” والشرن” و”الأسقمري” و”الراية” .. بخفة يد خبِرت لسنينٍ طويلة كيف تُطلق النكهة من عقالها. تلك القطع الذهبية الهشة، المغطاة بطبقة خفيفة من الدقيق ، لا تحتاج لأكثر من رشّة ملح وبعض عصير الحامض، حين تخرج من المقلاة حتى تُسحر الأذواق وتوقظ الشهية. وفي الزاوية المقابلة، تُهيأ “شريكات السردين”، و تُقلى حتى تحمرّ وتقرمش، فتُقدَّم في طبق لمن يطلبها. مذاقها يشبه لحناً شعبياً، بسيطاً لكنه يلامس الوجدان.
ولعلّ سرّ الاختلاف بين ما يُطهى هنا في السوق، وما يُطهى في البيوت كسؤول عادة ما يطرحه متدوقو السماك في الأسواق ، قد تكون أنت منهم، لا يكمن فقط في المكونات، بل في الجو… في ذلك الدخان المتصاعد من “الكانون”، وفي ضحكة البائع وهو يقلب السمكة بمهارة، وفي الأيادي الممدودة بقطع نقدية صغيرة مقابل وجبة كبيرة بالنكهة والروح.
ففي هذه الأسواق الممتدة ، التي تصون جانبا من ثرات المملكة، في جلبابه اللامادي وتحفز المال والأعمال في تمددها التجاري ، لا يُباع السمك فقط .. بل تباع معه حكاية مغربية، مخللة بنكهة الملح والليمون، ومقليّة بزيت الذاكرة الشعبية.