العدد: 2624
صحافي الجريدة ينتحل صفة معارض جزائري للعبور إلى سبتة
لا بأس أن أغير اسمي كي يصبح «حسن الجزائري» لإنجاز هذا التحقيق والذهاب به إلى أبعد مدى. حسن الجزائري شخصية هادئة هاربة من الجزائر بسبب صراعها من النظام، قطع آلاف الكيلمترات مخترقا الحدود الجزائرية المغربية ثم وصل أخيرا إلى الفنيدق باحثا عن»الخلاص». والخلاص في نظر حسن هو أن يدخل إلى سبتة بأي وسيلة حتى ولو تطلب الأمر أن يدفع كل ما في حوزته. في التحقيق، لا يتحدث حسن الدارجة المغربية أو الجزائرية، فقد قدم نفسه بأنه عاش 8 سنوات بفرنسا ولا يفهم سوى كلمات قليلة من الدارجة.
لم أصدق للحظة واحدة أن هذه الشبكات تشتغل بشكل منظم، ولديها وسائلها للتحايل على السلطات الأمنية المغربية والإسبانية، وفوق ذلك تتوفر على شبكة من العلاقات داخل سبتة المحتلة. يتصيدون الفرص لتهجير عشرات الأفارقة القادمين من بلدان جنوب الصحراء والجزائر والهند أيضا. همهم الوحيد أن يحصلوا على المال. في البداية يقولون لك فيما يشبه اليقين»إنك أصبحت على مرمى حجر من سبتة وأن الأمر لا يستغرق سوى ساعة على أكبر تقدير» ثم حينما يأخذون المال يقدمون نصيحتهم الأخيرة» إذا اعتقلك أحد لا تثر أي اسم منا ولا تفشي أسرارنا».
في رحلة البحث عن الخلاص حصل صحافي الجريدة على جوازي سفر أحدهما مغربي والآخر إسباني، والقاسم المشترك بينهما أنهما يحملان صورتين تشبهان صورة»حسن الجزائري» أو بعبارة أخرى تشبهان صاحب التحقيق. تجدون في هذا الملف/التحقيق، أحداثا عاشها صحافي الجريدة طيلة ثلاثة أيام بالفنيدق ومارتيل وباب سبتة، التقى خلالها بأعضاء شبكات معروفة في تهجير البشر من المغرب إلى سبتة بعيدا عن عيون الأمن.
ولأن ملفات من هذا النوع تحتاج إلى التوثيق، فقد عمد صحافي الجريدة إلى تسجيل كل فصول مفاوضاته التي لا تنتهي مع «مهربي البشر»، وينشر في الملف بالتفصيل الدقيق بعض مقاطعها المثيرة، بالإضافة إلى صور الجوازات التي حصلت عليها الجريدة.
صحافي «المساء» جرب طريق المغامرة وانتحل صفة معارض جزائري يريد الرحيل عن المغرب بأية طريقة، وجلس مع أعضاء شبكات لتهريب البشر، وتفاوض معهم ليصل إلى أكبر قدر من المعطيات التي قد تشفع في تفسير ظاهرة خطيرة تهدد»الأمن المشترك» ليس بين دولتين بل بين قارتين كبيرتين.
الصفة: معارض جزائري.. والمهمة: فضح أساليب عصابات تهريب البشر بالشمال المغربي
كرونولوجيا العبور إلى الضفة الأخرى بين أحضان «مهربي البشر»
في البداية بدت الفكرة غير قابلة للتحقق ولا للإنجاز لأسباب كثيرة، منها أن ظروف الاشتغال ليست متوفرة بالطريقة التي أبتغيها بمعنى أني لا أتوفر على الضمانات الكافية كي أخرج سالما من التحقيق دون أن أدخل في اصطدام مباشر مع أي أحد. ومنها أيضا أن الأفق المكاني الذي أنوي الاشتغال فيه يخضع لمجهر الأجهزة الأمنية على اعتبار أنه يحاذي منطقة حدودية تقيم الفصل ليس بين دولتين بل بين قارتين كبيرتين تخشيان أن «يتسرب» الإرهاب إلى أراضيهما. كان الصديق الذي اقترح علي التحقيق أول وهلة متحمسا جدا للفكرة بعدما لاحظ أن تجاوز خطوط التماس بين الفنيدق وسبتة المحتلة لا ينطوي على الصعوبة التي يمكن أن تخطر على بال من يعتقدون أن العبور إلى الضفة المحتلة أمر غاية في التعقيد.
قلبت الفكرة في ذهني، وبدأت أناقش كل حيثيات التحقيق مع من رأيت أنهم قادرون حقا على إيجاد مسالك أخرى قد توصل التحقيق إلى أبعد مدى، واستقر الرأي في الأخير على أن أستقل أول قطار متجه إلى طنجة ثم الفنيدق. كان كل شيء أصبح جاهزا: هؤلاء الذين سأتفاوض معهم للعبور إلى الضفة الأخرى، وهؤلاء الذين سيسهلون مأمورية الوصول إلى سبتة المحتلة بعيدا عن مراقبة أعين الأجهزة الأمنية المغربية والإسبانية على حد سواء، وهؤلاء الذين سينتظرونني عند باب سبتة كي يعطوني التعليمات الأخيرة قبل»الوصول» إلى «الفردوس المفقود».
إلى حدود اللحظة التي وصلت بواسطة طاكسي كبير إلى الفنيدق عبر الميناء المتوسطي لطنجة لم أكن أعرف أي أحد من هؤلاء وكيف يتصرفون ولم أكن أعلم أنا نفسي كيف سأتصرف معهم، وما الذي سيطلبونه وكيف يستطيعون تحت كل الحراسة الأمنية التي تخضع لها المنطقة أن يعبروا بي إلى سبتة المحتلة. كان الهاجس الأول الذي يحاصرني هو أن أصل إلى أكبر قدر من المعلومات في ظرف أربعة أيام دون أن أثير انتباه أحد.
جزائري هارب من جحيم النظام
كان مرافقي حريصا جدا ألا يتعرف علي أحد، وحتى لو تعرفوا علي كان يجب أن أبحث عن أي سبب آخر لوجودي بهذه المدينة التي التهمتها «مافيا العقار» حتى لو اضطررت أن أقول إني جئت لأنجز تحقيقا حول «انتشار الأزبال في الفنيدق». يقول صديقي ساخرا. ربما كنت أتفهم مخاوفه لاسيما وأنه ابن هذه المدينة ولا يمكن لأي أحد أن يخطئ ملامحه، لكن بعد أن اكتملت كل فصول التحقيق أدركت، بصورة أوضح، لم ظل مرافقي يسدي إلي النصح في ليلة كاملة دون أن يتوقف.
تضمن نص الاتفاق ألا أخالف أي شيء قد يأمرني به وأن تكون طريقة هندامي مناسبة للصفة التي سأتقدم بها أمام ما يسميه بالكثير من الخبث «لجنة الانتقاء». كل أجوبة مرافقي كانت قصيرة مقتضبة لا تتعدى في أقصى الحالات عشر كلمات. لم يكن يريد أن يستبق الأمر وكان يخشى شيئا واحدا: أن تفلت مني كلمة واحدة قد تضيع كل شيء. الجملة الواحدة التي أسرف صاحبي في شرحها بل وظل يلح على أن أفهمها عن ظهر قلب..هؤلاء الذين سنلتقيهم اليوم ليسوا أغبياء فقد سبق لهم أن تعاملوا مع المئات من أمثالك ومروا من محن لا تقدر على تصديق كيف نجوا منها واختلطوا مع جنسيات مختلفة. ظلت نصائح منير ملء سمعي تحاصرني من كل اتجاه. صحيح أنني خضت تجربة أكثر تعقيدا وخطورة من ذي قبل جعلتني أتعامل مع تجار مخدرات حقيقيين، لكن هذه المغامرة لا تشبه، بأي حال من الأحوال، باقي التحقيقات الأخرى.
«حسن هارب من الجزائر بسبب مشاكل سياسية مع النظام، تمكن من التسلل عبر المعبر الحدودي «زوج بغال» بعد أن قدم رشى كبيرة، وقبل أن يكون بالجزائر عاش بفرنسا مدة 8 سنوات، ويريد أن يدخل سبتة هربا من أعين المخابرات الجزائرية التي تطارده في كل مكان لتكون سبتة وجهة أولى قبل التوجه إلى فرنسا، لا يهمه الثمن الذي سيدفعه من أجل أن يخترق البوابة الحدودية بين الفنيدق وسبتة المحتلة». على هذا النحو قدمت نفسي لمن أسميه في هذا التحقيق بـ «أنس»، وهو أول من أصادفه في رحلة البحث عن معطيات تتعلق بشبكة «تهجير للبشر» نحو أوربا.
قبل أن ألتقي أنس، كان هناك لقاء آخر مع «رضوان»، الذي كان الوسيط الرئيسي للقاء بأنس. كان الهم الأول لهذه الشخصية الغامضة أن يوصلني إلى صديقه «أنس الخبير في التهجير وهو الوحيد الذي يقدر أن يفعل ذلك». من الجملة الأولى التي تلفظ بها حزرت أنه ريفي وسرعان ما أصبح ما كان ينتمي إلى باب الشك حقيقة. شرع يتحدث بريفية قحة ويقول لصاحبي: إحسبه وصل إلى سبتة دون عناء فكل من يعرف رضوان يعرف كيف أن نسبة نجاح فشل عملياته لا يتجاوز 10 في المائة.
مضت نصف ساعة كاملة كان «أنس» يبذل فيها جهدا كبيرا كي يؤلف جملا متقطعة بالفرنسية بعدما عرف أنني لا أتحدث العربية وكل صلتي بها لا تتجاوز معرفة بعض الكلمات العادية. مضت نصف ساعة وكان أنس يجلس غير بعيد عنا يمسح بعينيه كل أرجاء المقهى وكأنه خائف من أن السلطات الأمنية تريد أن تسقطه في شراكها متلبسا لكن مرافقي بدد كل شكوكه. حدق أنس في وجهي وقال قبل أن يبدأ بالتفاوض على الطريقة التي سأدخل بها إلى سبتة «وجهو صافي هدشي مزيان». هاتفي على الطاولة يسجل كل شيء وآلة تسجيل دقيقة في الجيب تحسبا أن يضيع التسجيل الأول.
مسار المفاوضات الشاق بين مرافقي وبين «رضوان» لم يتوقف لمدة ساعة كاملة وعدا جمل خاطفة كان يحاول بها أنس أن يشرح مضامين النقاش، كان رضوان يتحدث. كانت علامات الجدية والتوجس بادية على وجه رضوان وكلما قطع شوطا في التفاوض نظر إلي من جديد. قال لصديقي إن في يديه طريقتين لإيصالي إلى مدينة سبتة المحتلة: الأولى أن أعبر بشكل عاد بجواز سفر مسروق شريطة أن يكون صاحبه يشبهني في الحد الأدنى. لدى رضوان يقين غريب أن هاته الطريقة سهلة جدا ويمكن أن توهم السلطات المغربية والإسبانية بأنه لي. أما الطريقة الثانية فتقترن بتبدل أحوال الطقس، إذ سأركب وفق ما قال رضوان مركبا صغيرا للصيد البحري بأوراق «البحارة الإسبان» لكن الاقتراح الثاني سيكون ثمنه مرتفعا بالمقارنة مع الحل الأول.
يتوقف مسار المفاوضات ليسألني صديقي عن الاقتراح الذي أفضل وهل أقدر على دفع كل ما يطلبونه. أوهمت «أنس» و«رضوان» أنني أفكر في الحل الأمثل قبل أن أبادر صديقي بالسؤال»ما هو الحل الأنسب لأبلغ سبتة في أقرب وقت ممكن وهل لديهم كل الضمانات ألا يعتقلني أحد في الممر الحدودي؟». نقل «أنس» مضمون السؤال إلى رضوان الذي لم يتوقف ولو للحظة في التحديق في عيني. قال إن العبور عبر البحر يعد طريقة ناجعة جدا لكن ينبغي «أن ننتظر هدوء البحر» أما الحصول على جواز سفر أصلي، فهو محفوف بالمخاطر.
لم يصل التفاوض بعد إلى درجة الاتفاق حول الثمن الذي تقترحه شبكة «التهجير»، رغم أنه كانت ثمة تلميحات تفيد أن التعويض سيتجاوز مليوني سنتيم. اقترح صديقي على رضوان أن أمر عبر سيارة عادية، فأطلق كل من أنس ورضوان ابتسامة مجلجلة: «يوسع أيوما يوسع»، ويوسع تعني بالريفية أنني سمين ولا أستطيع أن أختبئ في السيارة. «ولكن كيفاش تيدوزو الأفارقة فالسيارة» يسأل صديقي، الذي أحسست أنه يخبئ ضحكة عميقة بعدما سمع كلمة «يوسع». وكأن الجواب كان جاهزا لدى رضوان: الأفارقة يلتصقون بالسيارة ومن الصعب جدا أن تضبطهم الشرطة الإسبانية.
طوال الجلسة، بذلت جهدا كبيرا كي لا أعطي أي إشارة أني أفهم الدارجة المغربية أو أفهم ما يدور بينهم. وصل التفاوض إلى أقصاه واستقر الثمن على مليون ونصف في العبور العادي عبر الممر الحدودي بجواز سفر مسروق يحمل صورة تشبهني وتأشيرة صالحة للالتحاق بسبتة فيما سأدفع مليونين ونصف مليون سنتيم لركوب «باتيرا» (المراكب الصغيرة باللغة الإسبانية) نظرا لأن الشبكة ستدفع مليونا آخر للبحارة الإسبان كي أتخفى خلف أوراقهم الرسمية.
رغم أن رضوان كان يتحدث منذ أن التقينا به بنبرة الواثق مما يقول وأنني سأصل إلى سبتة دون مشاكل كبيرة، فإن هاجس الخوف كان يسيطر عليه. يعبر عنه تارة بطريقة واعية وتارة أخرى بطريقة لاواعية. يقول لصديقي: أرجوك أخبره أنه إذا تعرض لأي مضايقة ألا يثير أي اسم من الذين التقاهم أو كيف حصل على الجواز أو أوراق البحارة، إذ ستكون نهايتنا وشيكة إذا ما أسر باسم واحد فقط… أنا كنت أحرك رأسي بالإيجاب فقط وأضيف جملة لبث الاطمئنان في نفوسهم»je suis totalement d’accord».
أنس الذي يصر على أن يقدم نفسه كمثقف يحب البشرية ويحب الخير للآخرين كان واثقا أكثر من رضوان نفسه أن هذا «الجزائري الذي تقاذفته حبال السياسة في بلده الأم بسبب مواقفه ضد النظام سيصل إلى سبتة بأي وسيلة». توطدت علاقتي به وكثيرا ما وصفني بـ»المسكين» رغم أنه لم يعترض بتاتا حينما اقترح عليه صديقي أن يقذفني أمام «الديوانة المغربية» ليوهمونني، في الأخير، أنني وصلت إلى سبتة وبعدها يأخذون مني هاتف «سامسونغ غالاكسي».
انتهت المفاوضات، وشرح لي صديقي بالتفصيل الدقيق ما فهمته أصلا: أن أدفع ثمن ألفي درهم كعربون للحصول على جواز سفر يحمل صورتي إذا ما أردت أن أبلغ سبتة المحتلة في ظرف يوم واحد أو سأضطر للانتظار يومين آخرين كي يستقر الجو. وصل الاتفاق، على ما يبدو، إلى نهاياته وبقي فقط أن أسلمهم صورة شمسية للحصول على جواز أصلي أو البحث بين مئات الجوازات المسروقة عن صورة تطابق مواصفاتي. بعد 15 دقيقة بالتحديد حملت معي بعض الصور الشمسية واختفيت إلى غير رجعة والوجهة المقبلة مهجر يعمل في ميدانهم نفسه لكن بتفاصيل مختلفة.
الطريق إلى سبتة ليست مفروشة بالنوايا الحسنة
يتلفظ بجملة واحدة ويستتبعها بسؤال آخر ليبدد الشكوك التي تحاصره خاصة لما علم أني هارب « من النظام السياسي بالجزائر». يقول فيما يشبه اليقين لصاحبي» أنت تجر معك مشكلا حقيقيا ويجب أن نتخلص منه في أول فرصة، وسأتدبر أمره هذا المساء لو أردت أو ستنتظر إلى يوم غد كي أضمن كل شيء». كنت أنتظر أن يشرح أكثر ما الذي يقصده بأن «يضمن كل شيء»: إما أنه يشتغل ضمن شبكة كبيرة لديها علاقات متشعبة مع السلطات المغربية والإسبانية وإما أن الشبكة التي يشتغل معها تتوفر على حيل كثيرة واعتادت على مثل هاته الحالات. لم يبح بأي شيء في اللقاء الأول سوى أنه أبدى جدية أكبر من رضوان في تدبر طريقة للوصول إلى سبتة. ومثلما كان يساور اليقين رضوان في أن «الأمور غادوز بيخير»، كان علال، أيضا، على يقين لا تتسرب إليه ذرة واحدة من الشك أن «العبور» ليس صعبا بالطريقة التي نتصورها.
لا يقبل علال اقتراحا عمليا آخر من غير أن أحصل على جواز سفر مغربي، إذ حسب منطوق كلامه ليس هناك من سيوقفني في طريقي إلى سبتة مادامت الصورة تطابق ملامح وجهي. بكثير من التمويه يفاوضه صديقي ويسعى بكل الوسائل أن يفهم كيف يشتغل ومع من يشتغل: ثمة بالقرب من هذا المكان أشخاص مهمتهم الوحيدة توفير جوازات السفر لمن يحتاجها ولم يسبق له أن تعاملوا مع أحد دون أن تثقوا به أو يتوفرا على الضمانات الكافية أن لا تفشى أسرارهم إذا»ما قدر الله أن ضبطت عناصر الأمن أي من حاملي هذه الجوازات «المسروقة». بشق الأنفس أقنع صديقي أن أرافق علال إلى محل صغير غير بعيد عن المقهى الذي دارت فيه «المفاوضات الشاقة» للعبور إلى سبتة المحتلة.
إلى الآن، لم يثر أي أحد منا حديثا ولو عابرا عن التعويض الذي سيأخذه علال ومن معه مقابل أن يأتي بجواز السفر. كل ما أفعله هو أني أحاول أن أسرق بعض اللحظات لأنبه صديقي إلى أشياء تنتمي في الأخير إلى «شوكة الصحافي»، قد تغيب عنه في مفاوضاته التي لا تنتهي مع «علال».
مازلت محتميا بالصمت، ومازلت أرنو إلى اكتشاف خيط جديد في مسار التحقيق ومازلت أؤلف بعض الجمل بالفرنسية أمام صديقي. 10 دقائق من المشي كانت كافية للوصول إلى المبتغى: محل صغير مركون في زاوية من شارع لا يؤدي إلى منفذ، وأشياء مبعثرة تؤثث المكان، وعقاب سجائر وكؤوس صغيرة للقهوة تنتشر بعبث وأوراق بيضاء أحرقها دخان السجائر وحاسوب يظهر أنه لم ينظف منذ القرن العشرين. ساد الهدوء في المحل لمدة تقارب خمس دقائق قبل أن يظهر من قال عنه علال إن تقديراته لم تخطئ يوما ونادرا ما منح جوازات استطاعت أجهزة الأمن الإسبانية والمغربية أن تعرف مصدر تلك الجوازات لتوقف حامليها.
ما لم يرد علال أن يصل إلي في الترجمة «غير الفورية» التي يقوم بها مرافقي أنه سبق للأمن المغربي والإسباني أن أوقف العشرات من حاملي الجوازات المزورة وغير المزورة خلال السنوات الماضية. ما كان ينفلت من لسان رضوان من هواجس القبض علي وإفشاء أسراره للأمن صار أوضح الآن مع علال. في التسجيل الصوتي، صرح أكثر من عشر مرات أن كل ما يخشاه هو أن تلقي السلطات القبض علي وأفضحهم واحدا واحدا: « قبل أيام كشف بعض الأفارقة الموقوفين عن جميع الأسماء التي ساعدتهم للوصول إلى البوابة الحدودية، وشكلت اعترافاته صدمة حقيقية لشبكات تهجير البشر».
مع «عبد المغيث» صاحب المحل الصغير، أبدو كأي تلميذ صغير في السنة الأولى من التعليم الابتدائي يجيل بعينيه أمام سطوة الأستاذ. ينظر إلي ويخاطب صديقي» قولو راه هادشي لكنديرو معاه مكنديروهش مع أي واحد» أما أنا أكتفي بإصاخة السمع لصديقي على أساس أني لم أفهم أي شيء مما قال. وحدث مرات عديدة أثناء الحديث بين»عبد المغيث» وصديقي أن كتمت ضحكات كانت تنمو بصدري بسبب جمل قمة في السخرية من قبيل» هاد بوراس واقيلا يصيفطنا للحبس مفيها شك» «عرفتي أش نديرو هادا نديوه للدنمارك أحسن» و»مالو مع بوتفليقة مسكين»!
أوقف عبد المغيث كلامه وراح يقلب الجوازات واحدا تلو الآخر وبين الفينة والأخرى يطلق عبارات ساخرة» وفين غنلقاو هاد راس دابا»، عثر على الجواز الأول واستشارنا جميعا واستقر الرأي على أن أوجه الشبه تكاد تكون منعدمة بيني وبين الصورة المطبوعة على الجواز. غاب للحظة وعاد بكومة أخرى من الجوازات المسروقة وبدأ يبحث هذه المرة بعصبية أكبر، وكان كلما نظر إلى جواز يدعك عقب سيجارته.
فجأة اتسعت عيون عبد المغيث وبدأ يصيح كمن عثر على المحار : «ها هو هو هذا ميمكنش نلقا حسن منو»، أنظر أنا إلى الصورة وأبدي بعض التحفظ لأن الوجه الظاهر في الصورة أكبر بقليل من وجهي فيما يصر رضوان أنه يشبهني ولا يمكنني بتاتا أن أجد أفضل من تلك الصورة. صديقي يقول ما مؤداه إن الصورة تحتوي على بعض الشبه ويجب أن ننهي «المسار التفاوضي» قبل الساعة السادسة لأننا على موعد آخر مع أحد أشهر المهجرين عبر البحر.
بقي الآن أن نتوصل إلى اتفاق نهائي حول ثمن جواز السفر وحول ضمانات الوصول دون أن أتعرض للاعتقال في البوابة الحدودية، رضوان يقول إن عبد المغيث لن يتفاوض معي على أي شيء سوى ثمن جواز السفر أما باقي التفاصيل فسيتكلف بها هو.
في الأوقات العادية يصل ثمن جواز السفر إلى 2000 درهم أما في الأوقات غير العادية، ونقصد الأوقات التي تشهد تشديد المراقبة الأمنية على مستوى ممر باب سبتة فيبلغ 4000 درهم دون احتساب عمولات الوسطاء.
عبد المغيث قال في جمل
طلبت من عبد المغيث أن أصور بعض صفحات جواز السفر كي أبعثه إلى أخي المقيم بفرنسا لآخذ رأيه في الموضوع، صورت الجواز – أنظر الصور المرفقة بالتحقيق- وبعثت بها مباشرة إلى مسؤولي التحرير بالجريدة. فهم صديقي الرسالة بسرعة البرق وطلب من رضوان أن يمنحنا مهلة للتفكير قبل اتخاذ أي قرار. على مضض وافق أفراد الشبكة على الطلب. وجد صديقي نفسه في موقف حرج إذ لم يتوقع لحظة أن العمليات التي تقوم بها عناصر الشبكة تتسم بهذه السرعة الخيالية.
بدأ الارتياب يساور علال من أن نكون فقط نريد «اللعب معه» وأنه لا يهمنا أن نشتري الجواز. نبرة حديثه كانت تخبر بما لا يريد أن يسر، فهو من جهة يبتغي أم ينهي المغامرة في وقت قياسي ومن جهة أخرى يريد الحصول على المال دون تردد، لكنه فوق ذلك يبحث عن نوع من «العزاء» ليضمن أني لن أفتح فمي حتى ولو وقفت أمام كل محققي العالم. لم يهدأ علال، الذي كان يمشي مسرعا في خطوه، إلا بعد أن دس صديقي مبلغ 400 درهم في يده مخاطبا إياه : أمالك أبا علال الفلوس موجودة غير كون راجل معانا.
سكنت 400 درهم بعضا من آلام علال الذي رأى في إحدى لحظات غضبه أنه لن يظفر بأي شيء من هذا «الجزائري اللعين» ومع ذلك لم يتوقف عن سرد معاناته مع الجزائريين وكرهه لهم لأنهم كانوا يفطرون في وضح النهار خلال شهر رمضان. حكى علال أنه كان يقود الزوارق الصغيرة في اتجاه إسبانيا، وقد فعل ذلك مرتين وتاب بعد ذلك عن مماحكة أهوال البحر، بيد أنه لا ينسى أبدا أنه «في إحدى الليالي دخل في شجار حاد جدا مع جزائريين في عرض البحر حول السرعة التي يسير بها الزورق». أوهم علال، كما يحكي بافتخار، الجميع بأنه نسي أمر الخصام وهمه الوحيد أم يطوي المسافة الفاصلة بين»الجحيم» و»الجنة» والحال أنه قلب اتجاه الزورق وقذف بالجزائريين في «شاطئ السواني» بمدينة الحسيمة: هذه هي إسبانيا قال لهم واثقا.
لم يعد التفاوض مقتصرا فقط على الحصول على جواز سفر مغربي، إنما إذا اقتضت الضرورة فسنقتني جواز سفر إسباني بعدما أبدينا رغبة جادة في الحصول عليه مهما كلف الثمن. كنت أتوقع ردة فعل علال بعد أن يعلم بالنبأ الجديد. يقول صديقي إنه سيتصنع ألاف الأعذار وسيقول في الأخير إن الأمر صعب جدا ويحتاج لوقت طويل لغاية واحدة هي الحصول على ثمن يفوق ثمنه الحقيقي. وكذلك كان. طلب علال مبلغ 3 آلاف درهم أي بزيادة ألف درهم عن المغربي قبل أن يواجهه صديقي بأن الثمن مبالغ فيه بشكل غير معقول وأن ثمن السوق لا يفوق ألفي درهم ثم وافق بسهولة كبيرة أن يجلب الجواز. غاب ربع ساعة وعاد في حوزته جواز سفر إسباني يحمل صورة تكاد تشبه ملامحي، أخذ 2000 درهم ولم يسأل لا متى نعود إليه ولا متى نلتقي..
قصة علال مع الجزائريين أثرت كثيرا في طريقة تعامله معي، فقد كان يحمل في لاوعيه ذكريات سيئة عنهم، لذلك كان يخشى في أي لحظة أن أفر منه أو أتسبب له في أي مشكل. على كل حال، 400 درهم كانت كافية لتطفئ شرارة الغضب في عينيه وكافية أيضا ليغير مجرى التفاوض إلى مسرى آخر. وذلك فصل آخر من هذا التحقيق.
في رحلة البحث عن مخرج من الشمال المغربي إلى سبتة المحتلة لا ينبغي أن تراهن على احتمال واحد لأن هؤلاء الذين يقولون لك بالكثير من السذاجة إنك ستكون في سبتة بعد يوم يعرفون هم أنفسهم أنهم قضوا عشرات الأيام يبحثون عن منفذ آمن لتهجير الأفارقة والجزائريين وبعض الهنود والمصريين حسب معلومات موثوقة حصلت عليها «المساء».
الساذجون وحدهم يصدقون أن شبكة غايتها جني المال وتنظر إلى الإنسان بمثابة سلعة تباع وتشترى وتعبر وقد تسقط في أيادي رجال الأمن، ستحملك في الأحضان وتفرش الورود في مسيرة الطريق من الفنيدق إلى سبتة. هكذا يوهمون عشرات الأفارقة والجزائريين والهنود أيضا وبعض الأفواج من الصينيين الذين يجدون أنفسهم فجأة في المغرب. في البدء يستسهلون الأمر ويقولون إن ألفي درهم كافية»للعبور» وحينما تحاصرهم بالأسئلة يتبادلون النظرات.
بعيدا عن ضجيج المقاهي، ضرب صديقي موعدا مع أحد أشهر العارفين بخبايا التهجير عبر البحر من الفنيدق إلى سبتة. كان مصرا جدا على أن يكون اللقاء بعيدا عن المتلصصين أو من يسميهم هو نفسه بـ«البركاكة». شغلت آلة التسجيل مرة ثانية وتركته يتحدث مع صديقي على سجيته: من قال لك إن البحر لا يسمح بنقله إلى سبتة. هؤلاء لا يعرفون شيئا عن التهجير ولا تربطهم أية علاقة بهذا الميدان. يشير بسبابة يده إلى أبعد نقطة تنتشر فيها المباني: نصف ساعة فقط سيصل إلى هناك إذا كان راغبا في ذلك أما إذا لم يكن راغبا فإنه سيجتاز رحلة الجحيم عبر جواز سفر مسروق. «ما أقوله لك صحيح وموقن منه سيجدني أنتظره في «الدروج» ديال سبتة حينما يصل إلى سبتة بأمان، وليست هي المرة الأولى التي أقوم فيها بهذه العملية، لقد أعدتها عشرات المرات طيلة عقد كامل من الزمن».
بالمال وحده يصل المرء إلى سبتة
فهمت الآن أن عمل شبكات التهجير يوظفون فيه كل ما يرونه قابلا للتأثير في الآخر واستثارة عواطف «العابرين الباحثين عن الخروج من الفنيدق بأية طريقة». لم يكن يحتاج «الصديق» لاستفزازه بالسؤال ليحكي قصته مع التهجير: «في البداية كنا نخرب السياجات التي تفصل بين باب سبتة والمدينة المحتلة، لكن بعد ذلك أصبحت المراقبة مشددة ولم يعد بوسع أحد تمزيق تلك السياجات». الشيء الوحيد الذي يمكن أن يفسر لعبة الاعترافات التي شرع فيها الصديق هو محاولة إقناعنا أن ما يقوله صحيح وأن بالمال وحده يحيا الإنسان في سبتة في انتظار عبوره إلى القارة الأخرى.
الصديق أكثر احترافا من الآخرين ولديه علاقات ليس فقط داخل الفنيدق بل حتى داخل مليلية. يشرح ذلك بالكثير من الإسهاب: باستطاعتي أن أضمن لصديقك أن يصل إلى سبتة وندخله إلى الملجأ ونوفر له الأوراق التي هو بحاجة إليها، وسيعيش بخير وستوفر له كل الخدمات الأساسية. «لا تستهن بالأمر فهناك داخل سبتة المحتلة عشرات ممن لم يجدوا مأوى وسيفعلون المستحيل للاستفادة من الخدمات الأساسية».
مرافقي بات يعلم جيدا ما الذي أريده من الصديق بالتحديد. كان يطرح السؤال تلو السؤال بضمانة واحدة: لقد منحني حسن الجزائري أمواله إذن لا تخش من أي شيء. يمضي الصديق بعيدا في شرح كيفية اشتغاله «في حال أراد فقط أن أعبر به راكبا «الباطيرا»، فعليه أن يدفع لي 20 ألف درهم نصفها سآخذها قبل الركوب ونصفها الآخر سأخذه في مليلية كما فعلت سابقا مع أصدقاء من نفس جنسيته بل قبل شهرين فقط أوصلت سوريين وليبيين بنفس الطريقة، أما إذا أراد أن يعيش داخل مليلية معززا مكرما، فسأتدخل له لدى أصدقاء سيتدبرون أمره».
بطبيعة الحال، ليس هناك شيء يمنحه الصديق بالمجان. شيء واحد يمنحه بالمجان دون أن يعرف بذلك: هذه المعلومات الدقيقة التي يصرح بها وتلتقطها آلة التسجيل بأمانة متناهية. يقترح الصديق أن أضيف مليونا آخر إلى المبلغ الأول ليصير 3 ملايين يتقاسمها، حسب شهادته، مع أعضاء آخرين ولن يتبقى له في الأخير سوى 8000 آلاف درهم.
لم يكن الصديق أبدا يخاطب صديقي ورغم أنه عرف منه أنني لا أتحدث سوى اللغة الفرنسية، فقد كانت عيناه تتوجهان إلي مباشرة: في «الباطيرا حيد عليك هاد لحوايج لتتبان بيهوم بحال إيلا جاي للعرس وتلبس حوايج ديال البحارة». يتذرع صديقي بأمر مستعجل عبر الهاتف، وكنت أدرك أنه يريد فقط أن يتخلص من ابتسامة عنيفة حبسها بشق الأنفس.
في الباطيرا، لا مجال للخطأ. سأركب في الساعة السادسة صباحا مع البحارة. الضمانة الوحيدة التي يقدمها الصديق هي أن أصل إلى سبتة ولا يهمني في تقديره كيف ومتى أصل. يشرح: «هناك خطر واحد في الرحلة البحرية يكمن في أن قوات الحرس المدني قد تراقب الأوراق، والمراقبة لا تشمل الأشخاص ولا عددهم ونادرا ما يلجؤون إلى هذا الإجراء.
والساذج أيضا وحده من يصدق أن الخطر الوحيد الذي سيتهدد سعيد الجزائري في البحر لا يتعدى مراقبة عادية للأوراق. قمة السذاجة. ربما فهم الصديق أننا نحن الاثنين لم نصدق إلا النزر اليسير مما قال. كان الاتفاق «الإطار» كما نسميه على سبيل المزاح أنا وصديقي أن نمنح الانطباع أننا خائفون، وكلما أوغل صاحبي في الحديث عن»المخاوف» و»الوساوس» يستحث الصديق حواسه ليكمل قصته مع التهجير.
«أنا من سيرافقه إلى المركب وأنا من سأتحدث في مكانه وأنا كذلك من سأركبه في «الباطيرا» وأنا من سيجدني في انتظاره لكن علينا أن نحسم الاتفاق الآن قبل الغد». هكذا كان يحاول الصديق تحويل المخاوف إلى اطمئنان «عميق».
يقول إن مبلغ المليون الذي سنضيفه إلى أجرته لتهجيري عبر مراكب البحارة لن ينال منه ولو»درهما واحدا» لأن هناك داخل سبتة من سيأخذ المبلغ كاملا من أجل ضمان مكان داخل أحد الملاجئ الاجتماعية الإسبانية. لديه فقط ثلاثة أيام كي يستفيد من الأكل ومن التدريس: الأصدقاء المغاربة والإسبان يساعدوننا كثيرا في إيجاد مأوى للمساكين والراغبين في الخروج من المغرب». أصبحت في عيني الصديق مسكينا يبحث عن مأوى بمليون سنتيم! ! !
خلال الأيام الـثلاثة التي سأقضيها في سبتة، وهي المدة التي يستلزمها ترتيب أوراق الملجأ، سيتدبر لي الصديق أين سأبيت «كون هاني أصحبي نلقاو ليه فين غيمشي».
يطرح صديقي السؤال البسيط العميق: ماذا لو تم اعتقاله؟ يستبعد الصديق فرضية الاعتقال من حساباته ويحسب احتمالاتها ضئيلة وضعيفة. هذه أفضل طريقة للعبور، ولا أعتقد أن الذين اقترحوا عليك شراء جواز السفر يقدرون خطورة الأمر. يتوجه إلي مرة أخرى بلغة حادة: أنت لا تقدر حقا ما معنى أن يتم اعتقالك وأنت تحاول الفرار بجواز سفر مزور، سيتهمونك بما لا يخطر على بال أحد، ويقينا ستصبح من أنصار داعش أو شبكة دولية للاتجار بالمخدرات.
أخبره صديقي ألا يفكر في عواقب الاعتقال كثيرا، فالأهم أن يتخلص مني بأية طريقة، ولولا صديق آخر له توسط له من إسبانيا لما ساعده في العبور: واش أنا عارف واش جا يفجر شيحاجة أو خدام مع داعش. تغيرت لغة الصديق آلاف الدرجات وصار الآن يستفسر عن موعد الحصول على التسبيق الذي اتفقنا عليه قبل قليل دون أن ينسى كما لم ينس «زملاؤه» في الحرفة ما أصفه بـ «الوصية الأخيرة».
ضاعت الضمانات ولم تبق نسبة اعتقالي «ضئيلة وضعيفة». نفس السؤال ونفس الوصية نتلقاها بصيغ مختلفة لكنها تتشابه وتتقاطع عند مجرى الخوف من إثارة أسماء مساعدي الصديق في رحلات التهجير من الفنيدق إلى سبتة. استقر الاتفاق أن نلتقي في المساء وأن نسلمه التسبيق الذي يصل إلى مليون سنتيم ثم بعد يوم واحد سأركب الباطيرا شريطة أن يكون المبلغ جاهزا في المساء وأي تأخر يعتبر بموجبه الاتفاق لاغيا، يؤكد الصديق بلغة حازمة. لم ينته نص الاتفاق حسبما اعتقدنا، فالصديق يقترح أن نلتقي في مارتيل وليس في الفنيدق في الحادية عشر ليلا.
في الطريق إلى الفنيدق شعرت فعليا بحجم المغامرة التي تورط فيها صديقي. يخاف أن يطارده «المهجرون» بعد عودتي إلى الرباط، ومع ذلك اقترح أن نذهب بالتحقيق إلى أبعد مدى لكن يتوجب البحث عن ذريعة منطقية لإقناع الصديق أن حسن الجزائري يحتاج إلى استشارة إخوانه من أجل الإقدام على الخطوة, سيما وأنه سبق له أن أخبره أن أمواله في حوزته.
بدأ الصداع يدب في رأسي وأصبحت الأسئلة تتشابك أكثر مما توقعت أول مرة. قبل حتى أن أرتب أفكاري أو أجد خيطا ناظما بين كل الأسئلة التي احتشدت بذهني ينادي صديقي للالتحاق بمارتيل بمقهى قريب جدا من الساحل المتوسطي.
حاولت أن أنسى موضوع اللقاء وتهديدات الصديق بأن تلغى الرحلة ما لم يتوصل بالمال خلال الليلة. شغلت نفسي بيقين كان دائما يساورني أن هذه المدينة تختصر قصص موغلة في الحزن يترجمها أهلها كلما التقيت بهم. لكن من ينسى الصديق وتهديداته؟
وجدناه في الطابق العلوي مرفوقا بشخص آخر قدمه على أساس أنه أحد مساعديه في عملية التهجير. كان ينتظر فقط أن نسلمه المال ونختفي في ليل مارتيل، لكنه اصطدم بالأعذار التي طرزها صديقي بعناية شديدة حتى لا يجد أي منفذ يذكي به شكوكه. أقنعه صديقي أنه في حدود التاسعة صباحا سيتوصل بمبلغ التسبيق مكمولا. مثل هؤلاء الذين يجمعون بين حلاوة المال ومغامرة السقوط في أيادي الشرطة لا تقنعهم مثل هاته الأسباب، كان يكفي فقط أن أنظر إلى حركات يديه وطريقة كلامه لأفهم أنه غير مقتنع بتاتا بجدوى تأجيل تسليم المبلغ في اليوم الموالي بداعي أنه هو أيضا مرهون بالتزامات أخرى مع مساعديه.
اصطنع صديقي عصبية بالغة ورفع صوته وخاطب الصديق: مالك أصحبي راه هادا ماشي لعب راه السيد غيحصل وخصو يعرف فين غادي. اشتعلت شرارة الغضب في عيني الصديق أما مساعده فحاول أن يطفئ غضبه خشية من افتضاح أمرنا في المقهى. هدأت الأمور قليلا وبدأ النقاش من الصفر أي من النقطة التي بدأنا بها في الفنيدق. حكى عن علاقاته والتزاماته وقدرته على الإيفاء بجميع التزاماته، فوافق في نهاية المطاف بمشقة الأنفس على طلبنا ولم يكن يعرف أن ذلك سيكون اللقاء الأخير بيننا والرقم الهاتفي الذي يتوفر عليه ليس سوى رقما لشريحة أخرى. أحاول أن أعزي نفسي بمقولة: الضرورة تبيح المحظورات وأحاول فوق ذلك أن أطمئن صديقي أن كل شيء سيكون على ما يرام.
مقطع من التسجيل الصوتي مع شبكة التهجير
تتوفر «المساء» على خمسة تسجيلات كاملة للحوار الذي دار بيننا وبين أعضاء شبكة تهجير البشر من الفنيدق إلى سبتة المحتلة، لكن وقع اختيارنا على هذا المقطع لأنه أكثر تعبيرا عن موضوع التحقيق.
– صديقي: أهلا «فيسينو» كيف حالك؟
عبد المغيث: بخير وأنت كيف هي الأمور، لم أرك منذ مدة، كيف اهتديت إلي اليوم؟
– صديقي: اليوم جبت معايا هاد المصيبة ديال الجزائري؟
عبد المغيث: لم أعرف أنه جزائري إلا الآن، فين عرفتيه؟
– صديقي: لدي صديق بإسبانيا هو من تدخل لدي قصد مساعدته في إيجاد وسيلة ليخرج إلى مليلية وبعدها إلى فرنسا؟
عبد المغيث: وكيف سيصل إلى فرنسا؟
– صديقي: لا شأن لي، مهمتي تنتهي بالتحديد في إيصاله إلى سبتة وبعدها فليتدبر أمره
عبد المغيث: أستطيع مساعدته لو أراد المكوث بسبتة المحتلة
– صديقي: خلينا من سبتة أصحبي راه مازالين في المغرب
عبد المغيث: هل يفهم اللغة العربية أو الإسبانية؟
– صديقي: يفهم بعض الكلمات باللغة العربية ولا يفهم أي شيء باللغة الإسبانية، لكن أنا سأتكلف بترجمة ما ستقوله غير نفضيو هدشي دغيا
عبد المغيث: وصوله إلى سبتة مسألة وقت فقط، يجب أن نتفق على التوقيت وعلى الثمن وعلى استعداده لدفع الثمن كاملا وفي وقته
– صديقي: بالنسبة للمال ليس هناك أي مشكل، فهو وضع أمواله عندي وكلفني بالتفاوض
عبد المغيث: هادشي مزيان، شنو بغيتو، أقصد متى يريد العبور وكيف يريد ذلك؟
– صديقي- يجيب بنرفزة-: حنا جينا عندك باش تقولينا بأي طريقة غيمشي ماشي حنا لينقولو ليك
عبد المغيث: باطيرا أفضل وسيلة ليصل إلى سبتة دون أن يطرح ذلك أي مشكل، فالبحر هادئ جدا
– صديقي-مقاطعا-: لكن قبل أن نأتي إليك أخبرنا أحدهم أن أحوال الطقس ليست جيدة؟
عبد المغيث: معندو ميقوليك، البحر هادئ وأنا أتابع حالته منذ أن كان عندي 17 سنة وفي القنوات الإسبانية وماشي المغربية
– صديقي: إذن يبدو خيار الباطير في اعتقادك سهلا في أقرب فرصة
عبد المغيث: نعم، بكل سهولة سنعطيه أوراق البحارة ويحيد دوك الحوايج واش جا يحرك ولا يتزوج
– صديقي: راه السيد لاباس عليه على داكشي لابس هاكا
عبد المغيث: لينطولوه نقصروه، سيرحل إلى سبتة عبر الباطيرا غدا في الصباح، وسأتصل بأصدقائي الذين سيساعدوننا، أنا أضمن له كل شيء، بل سأرافقه إلى «الباطيرا» وأضمن كل الإجراءات المتعلقة بالتهجير، وفي سبتة سيجدني أنتظره فور وصوله، وهناك أمر مهم يجب أن أخبرك به هو إذا كانت رغبته أن يبقى داخل سبتة، سأتدبر أمره عبر الاتصال بأصدقاء مغاربة وإسبان للحصول على ملجأ سيقدم له كل الخدمات الأساسية من مأكل ومشرب طوال مدة إقامته.
– صديقي: لا أبدا هو سيمكث على الأكثر ثلاثة أيام داخل سبتة وبعدها سيرحل إلى فرنسا، ما نريده منك هو أن توصله إلى سبتة وأن تخلصني من المشاكل والمتاعب التي من الممكن أن يسببها لي هذا الجزائري
عبد المغيث: سأكون معك واضحا جدا، العبور عبر الباطيرا متاح منذ صباح غد، وعليك أن تحضر تسبيقا بمليون سنيتم سأتسلمها هذه الليلة، والباقي سأتسلمه أثناء وصوله، ويجب أن تعرف أني لا أستفيد كثيرا من العملية، حيث سأحتاج على الأقل لثلاثة مساعدين لتمر العملية بخير، وإذا لم تصدقني سترى ذلك بنفسك في المساء
– صديق: صدقناك أسيدي
عبد المغيث: في الليل سنلتقي في مارتيل في مقهى قرب البحر هناك سأشرح لك كل حيثيات الرحلة من بدايتها إلى نهايتها، وأؤكد لك أنه لابد أن تأتي بمبلغ التسبيق وأي تأخير في هذا الموضوع سيلغي الرحلة
– صديقي: كون هاني سنحاول أن نأتي بالتسبيق هذه الليلة
عبد المغيث: ليست أول مرة سأقوم بهذه العملية وليست المرة الأخيرة، وقل له أن لا يخاف
أنا:je n’ai rien compris. Il veut faire quoi ?
– صديقي- بالفرنسية-: انتظر دقائق فقط ستعرف في كل شيء نحن في المراحل النهائية من التفاوض وستصل غدا إلى سبتة
عبد المغيث: المهم حتى لا نضيع الوقت نلتقي في المساء وسأشرح لك بعض الأمور الضرورية، منها إذا حدث شيء ما وفق ما خططنا له، فأنا أصر أن لا يثير أسماءنا حتى لا يحدث ما لا يحمد عقباه، وأنا أثق فيك أنت ولا أعرفه هو. على العموم هذه إجراءات احترازية فقط، لأنه منذ بدأت العمل بهذه الطريقة وقعت لي بعض المشاكل مرتين لا أكثر، معناه أن نسبة النجاح كبيرة جدا.
– صديقي: وهل ترى فكرة شراء جواز سفر مسروق أو مزور أنجع من» الباطيرا»؟
عبد المغيث: لاعتقد ذلك، «الباطيرا» أضمن بكثير من الجواز، يمكن أن أوفر هذه الطريقة بسهولة لكن ليست مضمونة ومحفوفة بالمخاطر
صديقي: صافي نلتقي بمارتيل ونناقش بالتفاصيل هذه العملية والله يخرج الأمور بخير.