*بقلم : عبد الخالق جيخ
أثار التقرير الآخير الصادر عن مجلس المنافسة الكثير من القلاقل في الوسط المهني المهتم بالسمك الصناعي، وحتى نغوص قليلا في هذا النقاش، وجب التأكيد قبل كل شيء أن قطاع الصيد يعد من القطاعات الغارقة في الممارسات العرفية، التي ترسم الكثير من المعاملات، وتنظم إلى حد بعيد الممارسات المهنية، سواء تعلق الأمر بنشاط الصيد، أو العلاقات التجارية، حتى وإن عرف القطاع الكثير من المستجدات على المستوى التشريعي والقانوني.
فمما لا شك فيه أن على مستوى الظاهر من خلال النصوص القانونية، يبدو كل شيء واضحًا، فالسوق حر، والأسعار تحددها آلية العرض والطلب، وأي إتفاق مسبق على تسعيرة معينة، يعتبر خرقًا صريحًا لقانون حرية الأسعار والمنافسة. لكن في أعماق موانئ الصيد البحري، وخصوصًا في الجنوب، تتكشّف مفارقة مركّبة ومعقدة، تعيد فتح النقاش حول حدود القانون، ومشروعية الأعراف المهنية، وتأثير ذلك على التنافسية والعدالة الإقتصادية.
فالقانون رقم 104.12 المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة، ينص في مادته السادسة بشكل واضح، على حظر أي إتفاق أو تحالف، صريحًا كان أو ضمنيًا، يهدف إلى تقييد حرية السوق. وتشدد الفقرة 6 من هذا القانون على الخصوص، على منع كل الممارسات التي تعرقل ولوج السوق، وتفتعل تغيرات في الأسعار. وتحد من الإنتاج أو تميّز بين الفاعلين. فهذا الإطار القانوني يشكّل مرجعًا أساسًا لتدخل مجلس المنافسة، كما في بلاغه الأخير الذي أشار إلى “اشتباه في اتفاقات على أسعار السردين” دون تسميه مباشر للفاعلين.
لكن والحال في الموانئ الجنوبية، حيث تشتغل مراكب الصيد الصناعي الخاضعة لنظام الحصة (Quota)، ينكشف واقع آخر. فهذه المراكب، رغم تحديد كميات مصطاداتها مسبقًا، تبقى “حرة” في تحديد أسعار بيع منتجاتها، إلا أن هذا الهامش من الحرية يتحول ميدانيًا إلى هامش محسوب وموجه، في ظل التقاطع مع أعراف سوقية، تُفرَض أحيانًا بقوة الضغوط غير المعلنة، وفق ما يُعرف اصطلاحًا بين المهنيين بـ”السومة المتفَق عليها” والتي تختلف عباراتها بإختلاف تمدداتها .
هذا الإتفاق سواء كان موثقا أو غير موثق، يطرح إشكالًا قانونيًا حساسًا، كما يطرح إشكالات تتولد عن الأسئلة الجوهرية المطروحة، من قبيل هل يُعد هذا العرف اتفاقًا ضمنيًا يُخِل بمبدأ المنافسة؟ وهل تتحول حرية التفاوض إلى وهم حين تكون الأسعار موجهة خلف الكواليس؟ لاسيما عندما يُنظّم العرف السوق ويتجاوز القانون، فالسوق في هذه الحالة لا يُدار فقط بالقوانين، بل بما يشبه “النظام الموازي” الذي تُديره أعراف متداولة، وبتواطؤ ضمني بين بعض الفاعلين. فمن يخرج عن هذا العُرف، يُهمَّش أو يُضغَط عليه، وهو ما يخالف جوهر المادة 6 من القانون، التي تمنع تقاسم السوق، أو إقصاء الفاعلين، أو التحكم في الأسعار بشكل اصطناعي.
ومن المفارقات المثيرة، أن المراكب تخضع لتقييد كمي قانوني (نظام الحصة)، لكنها تسعى لتعظيم الربح من خلال هامش سعري موجّه عرفيًا، فيغيب عنصر المنافسة الحقيقية، وهنا يبرز بلاغ مجلس المنافسة، وإن كان عامًا، إلا أنه يعكس بداية وعي رسمي بوجود اختلالات حقيقية في سوق السمك، خصوصًا في منتوج استهلاكي شعبي مثل السردين. إلا أن الفعل الرقابي لم يواكب بعد هذا الوعي بشكل صارم، ما يفتح المجال أمام استمرار ما يمكن اعتباره “احتكارًا مقنّعًا”.
بلاغ مجلس المنافسة الأخير، الذي أشار إلى اشتباه في اتفاق على الأسعار بين موردي السردين، أعاد هذا الجدل إلى الواجهة. فالبلاغ لم يسمِّ الفاعلين، لكنه ألمح إلى ممارسات مكرَّسة في الواقع، حيث تُوجَّه السوق من الخلف، خارج أعين الرقابة الرسمية، وبآليات قبلية أو عرفية تعتبر نفسها (من ضرورات تنظيم السوق). لكن من منظور القانون، لا يهم شكل الاتفاق، ولا مبرراته المهنية أو القطاعية، بل أثره على السوق والمستهلك. فإذا أفضى إلى عرقلة حرية التسعير، أو تحكُّم في العرض، أو إقصاء زبون او مصنع من نفس الفرص، مع العلم ان الجميع يلج الى نفس السوق، لكن البعض يحضى بالأولوية .. فهو خرق صريح للقانون. والفقرة السادسة واضحة في هذه النازلة، وما يزيد الصورة تعقيدًا أن بعض هؤلاء الفاعلين يخضعون فعليًا لتقييد كمي (نظام الحصة)، ما يجعل التحكم بالسعر عند البيع الأول ، والتلاعب به في باقي سلاسل البيع لاسيما على مستوى التقسيط ، يُنظر إليه كمحاولة لتعظيم الربح في ظل كمية محدودة قانونيًا.
فواقع الحال يؤكد أن ما بين القانون والعرف تبقى الحاجة إلى التوازن بارزة ، على إعتبار أن القانون يضمن حرية الأسعار، لكنه لا يراقب دائمًا آليات تشكيلها في الميدان. كما أن العرف ينظّم السوق أحيانًا بمرونة، لكنه يتحوّل إلى تهديد إذا استُخدم لفرض منطق الإحتكار والإقصاء. لذلك، تبدو الحاجة ملحة اليوم إلى مصالحة بين القانون والعرف، عبر تدخل واضح وفعّال من مجلس المنافسة. وضمان الشفافية بشكل أكبر في الموانئ. مع الإشراك الحقيقي للمهنيين في بناء منظومة تسعير عادلة. وتعزيز الرقابة الميدانية على صفقات البيع داخل نقط التفريغ.
وهنا تبقى الغاية تبرر الوسيلة من خلال سؤال عريض، يجد فحواه في ماهية السوق الذي نبحث عنه، وبالتالي فالواقع يؤكد أننا لا نحتاج فقط إلى القوانين، بل إلى توازن بين النص والممارسة. فحرية الأسعار لا تعني الفوضى، كما أن التنظيم المهني لا يبرّر التواطؤ أو الإقصاء. فإذا أردنا سوقًا عادلة وشفافة، تعكس حق المهني والمستهلك معًا، فلابد من تجاوز المفارقة: بين قانون يُطبّق على الورق، وعُرف يحكم في السوق..
*عبد الخالق جيخ فاعل كنفدرالي في قطاع الصيد الساحلي
في إطار ممارسته لمهامه واختصاصاته المنصوص عليها في الدستور، وفي القانون رقم 20.13 المتعلق بمجلس المنافسة والقانون رقم 104.12 المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة، كما تم تغييرهما وتتميمهما، والرامية لضبط المنافسة في الأسواق وحماية مصالح المستهلكين، اتخذ مجلس المنافسة المبادرة وفتح تحقيقا في وجود محتمل لممارسات منافية للمنافسة في سوق توريد السردين الصناعي.
https://conseil-concurrence.ma/ar/%d8%a8%d9%84%d8%a7%d8%ba-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%82%d8%b1%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%a7%d9%85-%d9%84%d9%85%d8%ac%d9%84%d8%b3-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%86%d8%a7%d9%81%d8%b3%d8%a9/