قبيل تعيين امباركة بوعيدة، كاتبة دولة في الصيد البحري قادمة من دهاليز وزارة الخارجية، كان قطاع الصيد البحري دخل منطقة “مطبات” عنيفة، بسبب بطء تفعيل أوراش المراقبة والتنظيم واستكمال مشاريع التقنين ومحاربة لوبيات التهريب، و”تفتيت” حاضنات الريع والصيد غير القانوني وغير المنظم وغير المصرح به.
وتكاد المشاكل تمس جميع وحدات الأسطول المغربي، لكن تأخذ طابع أزمات بنيوية بقطاع الصيد التقليدي الذي يعتبر تاريخيا الحلقة الأضعف، خصوصا بمنطقة “ساخنة” مثل الداخلة، حيث يقترب الوضع من الانفجار في أي لحظة.
تتميز جهة الداخلة وادي الذهب بشريط ساحلي يبلغ طوله 667 كيلومترا مربعا، ما يجعلها واحدة من أغنى مناطق الصيد البحري بالمغرب، إذ يبلغ معدل الإنتاج بها ما يناهز 65 في المائة من الثروة السمكية على الصعيد الوطني، كما تنفرد الجهة بخليج بحري متميز يمتد على مساحة تبلغ 400 كيلومتر مربع، يعتبر شريان الحياة لأنواع عديدة من الأسماك والرخويات.
فأغلب الوثائق الرسمية الصادرة عن الوزارة الوصية والمكتب الوطني للصيد، تشير إلى “المجهودات” التي عرفها القطاع بالجهة، والمؤهلات البحرية التي تحولت، منذ سنوات، إلى مركز جذب للكثير من رجال الأعمال والمقاولين، كما عرف إنجاز عدة مشاريع مكنت من تطوير الآليات والبنيات الأساسية التي مكنت من مضاعفة الإنتاج الذي وصل في 2016 إلى 17537 طنا من الرخويات وحوالي 239 طنا من القرشيات، أما السمك الأبيض فبلغ مجموع إنتاجه حوالي 16064 طنا.
وتتوزع خيرات الجهة وثرواتها البحرية (المكونة أساسا من الأخطبوط والحبار والسردين والماكريل والبوري وسمك أبو سيف وجراد البحر الأخضر) أربعة مكونات تشكل الأسطول الجهوي، وهي الصيد الحرفي التقليدي وصيد الأسماك السطحية والصيد الساحلي والصيد في أعالي البحار، إضافة إلى قطاع الرخويات وتربية الأحياء المائية.
وحسب الوزارة، فإن جميع هذه المكونات تستفيد من بنيات تحتية وتجهيزات، من قبيل ميناء مهم وست قرى للصيد التقليدي، وستة مواقع لتفريغ الأسماك و85 وحدة لمعالجة وتجميد السمك والمنتوجات البحرية ومركز للتأهيل المهني البحري ومركز للبحث البحري.
نهب ولوبيات
هذه المجهودات لا ينكرها أغلب المهنيين في الصيد التقليدي على الخصوص، لكن يعتبرونها غير كافية، محذرين في الوقت نفسه، مما يتعرض له القطاع من نهب واستنزاف ممنهج للمخزون “س” على يد لوبيات مغريبة وأجنبية، ما ينذر، حسبهم، بإلحاقه بمخزوني “أ” و”ب” بشمال المملكة اللذين دمرا من قبل اللوبيات نفسها المتحكمة في دواليب ومؤسسات الدولة.
ورسمت وثائق اليوم الدراسي الذي كانت اللجنة التنظيمية لقطاع الصيد التقليدي بالداخلة تعتزم تنظيمه بداية مارس الماضي، قبل “تعليقه” من قبل السلطات المحلية لأسباب مجهولة، صورة سوداء عن واقع قطاع يعتبر رافعة الاقتصاد المحلي، كما قدمت مقترحات وحلولا اعتبرت حدا أدنى لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
وحسب الوثائق نفسها، فـ”إن قطاع الصيد البحري بوادي الذهب يمر بأسوأ مرحلة في تاريخه، بسبب الجشع وعدم توازن قرارات الإدارة الوصية وسلبيتها، وتجاهل توصيات المعهد الوطني للبحوث البحرية وتنبيهاته، والأخذ بنتائج دراساته الميدانية، رغم أن هذا المعهد خاضع لتعليمات الوزارة وسلطتها”.
ويضاف إلى ذلك، حسب المهنيين أنفسهم، غزو أرباب رؤوس الأموال الذين تمكنوا من الحصول على رخص الممارسة بمياه المنطقة، فاقتنوا سفن صيد “إر.إس. دوبل في” المدمرة، وهذا الصنف من المستثمرين لا تربطهم أي علاقة بالبحر، والأخطر من كل هذا أنهم أصبحوا يملكون في آن واحد سفنا ومعامل، وهذا هو التحكم الحقيقي في ثروة البلاد السمكية”.
ويرى المهتمون أن المشاكل التي يتخبط فيها القطاع تعود إلى الغياب التام لرؤية واضحة وإستراتيجية رشيدة مبنية على أسس وقواعد ودراسات علمية، ونزيهة مرتكزة على تغليب المصلحة العامة بدل السعي وراء المصالح الضيقة والخاصة.
وتحدث المهنيون، في هذا الإطار، عما أسموه “المسرحية” المنظمة بالرباط في شتنبر الماضي تحت شعار “زيرو تهريب للأخطبوط”، مؤكدين أن المستهدف من هذا الاجتماع هو الصيد التقليدي بالداخلة، مادام الحاضرون لم يتطرقوا إلى الطرق التي تستعملها سفن الصيد في أعالي البحار، في مجال التهريب المقنن والتدمير الممنهج للثروة السمكية باستعمال آليات الصيد المحظورة.
كما لم يشر الاجتماع، حسب الوثائق نفسها، إلى طريقة تهريب الأسماك السطحية بالنسبة إلى سفن “إر.إس. دوبل في” ومراكب الصيد بالخيط ومراكب صيد السردين، هذا دون ذكر صيد الأسماك غير المؤشر عليها في رخصة الصيد التي يطلق عليها “الصيد الخطأ”، علما أن الوزارة ومراقبيها يعتمدون على تصريح الربابنة دون المعاينة، ما يدفع الربان إلى الإدلاء ببيانات وتصاريح مخالفة للواقع، إذ يصرح، على سبيل المثال، بحمولة 200 طن، بينما حمولة السفينة الحقيقية هي 500 طن.
المخطط المغبون
وأشار المهنيون إلى أن أعطاب القطاع الأساسية تتمثل في عدم تطبيق الاتفاقات السابقة الموقعة مع ممثلي القطاع، وخصوصا مخطط 2004 الذي ظلت أغلب محاوره والتزاماته حبرا على ورق، ما يطرح أمام المسؤولة الجديدة على الصيد البحري عددا من التحديات لمعالجة الوضعية وتنبني عدد من الحلول التي اقترحتها وثائق اليوم الدراسي.
ويلح المهنيون، في هذا الصدد، على ضرورة رفع حصيص أسطول الصيد التقليدي من الأخطبوط إلى 40 في المائة عوض 26 في المائة التي خصصت سابقا لـ 2500 قارب، دون الـ 583 المضافة خارج مخطط 2004، في المقابل، تقلصت سفن الصيد في أعالي من 390 إلى قرابة 220 سفينة، ومازالت تحتفظ بنسبة 63 في المائة من الحصيص، مع مراجعة قرارات الوزارة المتعلقة بالأميال وسحب رخص قوارب الصيد التقليدي دون غيره من الأساطيل ومنع استعمال الأقداح البلاستيكية.
واقترح المهنيون منح حصة فردية للقوارب من سمك “السردين” و”الحبار” و”سيبيا” و”جراد البحر” لأن هذه هي الوسيلة الوحيدة المتاحة للوزارة لمراقبة عمليات صيد هذه الأصناف، فضلا عن أنها أيضا الوسيلة المثلى لضمان استمرار العمل. ويكون سكان الجهة، بالتالي، أول المستفيدين من خيراتها. كما ألحوا على منح حصص فردية كذلك من هذه الأنواع للسفن ومراكب الصيد الساحلي بالجر وقوارب الصيد التقليدي لوضع حد للصيد المفرط الممارس على مخزون هذه الأصناف، والحد أيضا من استصدار وثائق تسوية وهمية لتصدير أصناف أخرى.
وطالب مهنيو الصيد التقليدي بضرورة احترام ميناء الربط على الصعيد الوطني للأساطيل الثلاثة، أسوة بأسطول الصيد التقليدي بالداخلة، حتى يحافظ كل أسطول على مخزون منطقته ويحميه ويدافع عنه، عوض أن تتوالى عمليات تخريب مناطق الصيد منطقة بعد أخرى، مع مطالبة الوزارة برفض الترخيص لأي سفينة، أو مركب، أو قارب بالانتقال من مصيدة إلى أخرى، وذلك حفاظا على الثروة السمكية.
فسخ العقد مع “أونسا”
لإصلاح القطاع، طالب المهنيون بمنع جميع أنواع الصيد البحري بالجر والبحث عن وسيلة وآليات صيد أخرى، مع توقيف جميع السفن التي تستعمل هذه الآلية، باعتبارها أدوات لتدمير المخزون السمكي والبيئة البحرية، وخصوصا الشعب المرجانية، لأنها تستعمل الشباك البلاستيكية الثنائية الجيوب غير قابلة للتحلل، إضافة إلى أن هذه السفن والمراكب تعيد وتلقي إلى البحر كميات ضخمة من الأسماك ميتة، كلما عثرت على الأكبر حجما، أو أسماك جيدة.
إضافة إلى المطالب الموجهة للمكتب الوطني للصيد البحري والبحرية الملكية، ألح المهنيون على ضرورة إلغاء و فسخ كافة الالتزامات المبرمة بين الصيادين التقليديين والمكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتوجات الغذائية، مبررين بأن الطبيب البيطري يسلم شهادات السلامة الصحية للأسماك للتجار وليس للصيادين، دون معاينة المنتوج داخل الأسواق، علما أن الصيادين من يؤدي ثمن ذلك.
اقتطاعات الضمان…القنبلة
عادت وثائق اليوم الدراسي حول واقع الصيد البحري للتداول في أحد الإشكاليات الكبرى التي تؤرق عددا من المهنيين، ويتعلق الأمر بالانخراط في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، إذ قررت الوزارة بداية السنة الجارية ربط التجديد السنوي لرخصة الصيد بالانخراط في الصندوق، بمعنى الامتناع عن تسليم رخصة الصيد للقوارب غير المصرح ببحارتها.
ووصف المهنيون هذه الإجراء بالتعسفي وغير المشروع وشططا في استعمال السلطة، وإعمالا لـ”مبدأ” المقايضة الممنوعة قانونيا، مؤكدين أن موضوع الانخراط يعود إلى رسالة صادرة عن مدير الصندوق في 29 غشت 2016 موجهة إلى وزير الفلاحة والصيد البحري يلتمس توسيع التغطية الاجتماعية والصحية لفائدة بحارة الصيد التقليدي التابعين للداخلة، مؤكدا في الوقت نفسه أن عدد المنخرطين في هذا الصندوق ينحصر في 19868 بحارا بينما يتجاوز عدد البحارة التقليديين 51 ألفا.
وعلق المهنيون على نسب الاقتطاعات بأن الصيد البحري التقليدي بجهة الداخلة وادي الذهب يعمل بنظام الحصة، ويقتصر أساسا على الأخطبوط، ولا تتعدى فترات العمل الحقيقية والفعلية في هذه المصيدة شهرا في الصيف وشهرين في الخريف على أكبر تقدير، أي ثلاثة أشهر عمل في العام.
وإذا أخذ في عين الاعتبار، يقول المهنيون، أن مجموع نقاط عمل الشهر الواحد محدودة في 26 نقطة وأن معظم الصيادين يتجاوز عمرهم 40 سنة، فمن المستحيل على هؤلاء الحصول على 3240 نقطة كي يستفيدوا من المعاش، إلا إذا طلب منهم الاستمرار في العمل إلى سن 100.
وأكد المهنيون أن الانخراط في الصندوق الوطني ليس موضوعا جديدا، إذ سبق للبحارة أن خاضوا تجربة مماثلة قبل 2006 باءت بالفشل، ما أوردته رسالة موجهة من مندوب الصيد البحري بالداخلة إلى الجمعيات والتعاونيات، وتشكلت إثرها لجنة لإعداد دراسة ميدانية عبر الموانئ ونقاط الصيد وقفت على صعوبات وتعقيدات تنزيل هذا المشروع، منها أن نسبة الاقتطاعات وعدد أيام العمل لم تحترم (مبلغ الاشتراك حدد في 551.39 درهم لـ26 يوم عمل).
وقال المهنيون إن وزارة الصحة ضربت صفحا على هذه الملاحظات الواردة في رسالة المندوب، وعادت في نونبر 2016 تحث مصالحها الجهوية بالداخلة من أجل تنفيذ الاقتطاعات لفائدة الصندوق الوطني “خارج أي معيار معقول ومقبول ومتفق بشأنه”، علما أن الموضوع برمته يدخل في اختصاصات الصندوق وليس الوزارة.
ومعلوم أن الظهير الشريف بمثابة قانون رقم 1.72.184 بتاريخ 27 يوليوز 1972 المتعلق بالضمان الاجتماعي في الفصل 2 ينص على أن المعنيين هم البحارة الصيادون بالمحاصة على ظهر البواخر، وكذلك في الفصلين 19 و20 من الظهير نفسه، دون أن يرد أي ذكر للقوارب، إذ أن أرباح وتكاليف البواخر غير أرباح وتكاليف القوارب التقليدية، حسب تعبير المهنيين أنفسهم.
البحرنيوز: جريدة الصباح