بقلم: عبد الخالق جيخ
لم تكن حادثة قرصنة واستعمال مركب الصيد الحسين من داخل ميناء أكادير، إلا حلقة صادمة أخرى في سلسلة من التراخيات التي تمسّ واحدة من أخطر المساحات الاستراتيجية في البلاد: الموانئ. فقد بدا ما جرى، بكل ما يحمله من دلالات أمنية وتشغيلية وقانونية، وكأنه مشهد مقتطع من زمن الفوضى، لا من واقع ميناء خاضع نظريًا لمنظومة قانونية مشددة تُفترض فيها الصرامة والجاهزية.
بعد هذه الواقعة، وتفاعلاً مع تدوينات متعددة عبر شبكات التواصل الاجتماعي، دخلتُ في نقاش خاص مع عدد من الفاعلين المهنيين، الإداريين، وأصدقاء على صلة بالقطاع. ما أثمر خلاصة تستحق أن تُطرح للنقاش العمومي: من يتحمّل المسؤولية القانونية في حوادث القرصنة داخل الميناء؟
للإجابة، لا بد أن نحتكم إلى النصوص القانونية المنظمة لعمل الموانئ، وعلى رأسها القانون 71.18 المتعلق بشرطة الموانئ، والمُنفذ بموجب الظهير الشريف 1.21.49 الصادر بتاريخ 26 ماي 2021، حيث يمنح هذا القانون الوكالة الوطنية للموانئ – بصفتها “السلطة المينائية” – صلاحيات كاملة لتأمين، تدبير وتنظيم الموانئ. ويجعل منها الجهة الحصرية المسؤولة عن حماية المنشآت، السفن، والبشر داخل الفضاء المينائي.
وليس الأمر محصورًا في النصوص العامة، بل إن مواد القانون واضحة في التنصيص على أدوار الوكالة. فالمادة 12، على سبيل المثال، تشترط ألا تغادر أي سفينة الميناء أو تقوم بأي مناورة دون إذن من قبطانية الميناء، والتي هي جهاز تابع للوكالة. وهو ما يجعل أي تحرك بحري داخل الميناء، كيفما كان نوعه، خاضعًا لنظام ترخيص دقيق. وهنا يظهر الخلل بوضوح: كيف غادر مركب “الحسين” وقبله مركب آخر، دون أن يتم رصده أو توقيفه في لحظته؟
الأدهى من ذلك أن الميناء يُفترض أنه منطقة ذات حماية خاصة، تخضع للمراقبة بالكاميرات، وبنظام تصاريح ولوج صارم، وتنسيق دائم بين أعوان الوكالة، الأمن الوطني، والدرك البحري. فهل عُطلت كل هذه الأجهزة في لحظة واحدة ؟ أم أن الثغرات التي استغلها السارقون تكشف عن ضعف بنيوي مزمن في منظومة التنسيق الأمني للميناء؟ وهو سؤال إستفهامي يؤكد بما لا يدع مجالا للشك ان عملية السرقة كانت مدروسة ومنظمة، وبتخطيط مسبق ، فنحن أمام جريمة منظمة تحتاج لليقظة الإستباقية.

بطبيعة الحال، قد يقال إن المجهز (مالك المركب) يتحمّل بدوره مسؤولية، استنادًا إلى المادة 12 من نظام استغلال ميناء أكادير، التي تلزمه بتوفير حراسة لمركبه أثناء رسوه، والتواصل مع قبطانية الميناء. لكن هذا الالتزام – وإن كان قائمًا – لا يرقى إلى نفي المسؤولية الكبرى عن عاتق السلطة المينائية. فالمراقبة الفردية لا تُغني عن الحماية الشاملة، ولا يمكن تحميل صاحب المركب أكثر مما يحتمل في فضاء مؤسساتي، يُفترض أن يكون محصنا ، لا مفتوحًا على احتمالات القرصنة.
وفي هذا السياق، فإن أحكام القانون 02-15، وتحديدًا المادة 33 منه، تنص بوضوح على أن الوكالة تضطلع بمهمة السلطة المينائية، من خلال جهاز القبطانية، الذي يناط به تدبير الملاحة، تنظيم الرسو، ضمان السلامة، والتنسيق مع باقي المتدخلين لضمان الأمن المينائي. كما تفرض التشريعات الدولية، التي صادقت عليها المملكة، مثل المدونة الدولية لأمن السفن والمرافق المينائية (ISPS Code)، توفير حماية مضاعفة ضد أي اختراق غير مشروع داخل الفضاءات المينائية.
نحن إذن أمام واقعة لا يمكن اختزالها في مجرد حادث معزول، بل هي مؤشر على وجود أعطاب حقيقية في آليات الحراسة والمراقبة. وإذا لم تتم مساءلة الجهات المسؤولة قانونيًا وتدارك الثغرات الحاصلة، فإن ذلك سيُكرّس حالة من الإفلات الإداري من المسؤولية، ويفتح الباب أمام تكرار سيناريوهات مماثلة، قد تكون أكثر فداحة في المستقبل.
إن الحديث عن الهجرة غير النظامية لا يُمكن أن يُختزل في بعدها الاجتماعي والاقتصادي، بل يجب أن يُدرج أيضًا ضمن إشكاليات الحكامة الأمنية. فحين تتحوّل مراكب الصيد إلى أدوات للسرقة والفرار من داخل فضاءات يفترض أنها محصّنة، فإننا لا نتحدث فقط عن ظاهرة اجتماعية، بل عن اختراق مباشر لمفهوم السيادة الأمنية داخل الموانئ.
فما جرى يستدعي ليس فقط تحقيقًا دقيقًا، بل أيضًا نقاشًا قانونيًا ومهنيًا حول أدوار كل طرف داخل منظومة الموانئ، وإعادة النظر في سُبل تأمين هذا المرفق الحيوي. كما أنه يفتح الباب أمام حق المتضررين – وفي مقدمتهم المجهزون – في المطالبة بالتعويض، واللجوء إلى القضاء، مستندين إلى النصوص القانونية الصريحة لمواجهة مكامن التقصير. فلن يكون هناك رادع فعلي إلا بترسيخ مبدأ المحاسبة، لأن القانون حين لا يُفعّل، يصبح مجرد وثيقة مؤطرة لمشهد العبث.
*كتبه للبحرنيوز عبد الخالق جيخ فاعل كنفدرالي سابق ومدون مهتم بشؤون الصيد البحري
النصوص القانونية و التنظيمية.
تشارك الوكالة الوطنية للموانئ في وضع التشريعات والتنظيمات التي تحكم القطاع المينائي. تقدم هذه الفقرة القانون رقم 02-15 والمدونة الدوليـة لأمــن السـفن والمرافق المينائيــة والقوانين البحرية الاساسية وكذا النصوص التنظيمية للموانئ.
https://www.anp.org.ma/ar/publications/lois-reglementations