على عكس السنوات الآخيرة يأتي عيد الشغل هذه السنة في سياق مطبوع بالإستثنائية، في ظل التدابير الإحترازية التي إعتمدتها البلاد للتصدي لفيروس كورنا المستجد، والذي غيب اليد العاملة المغربية عن شوارع البلاد، فباتت الفضاءات الكبرى، التي إعتادت على إستقبال الإحتفالات السنوية منكوبة معزولة بشكل غريب، بعد أن إستعاضت النقابات بمواقع التواصل الإجتماعي والعالم الإفتراضي في تهنئة الشغيلة، والتفاعل مع منخرطيها بكلمات ومداخلات، لم تخرج عن ما هو متعارف عليه، اللهم الدعوة إلى المزيد من التكتل لمواجهة تداعيات الجائحة، لتجنيب البلاد المزيد من الخسائر في الأرواح وكذا الإصابات الناجمة عن الوباء.
ولأن البحار جزأ من اليد العاملة سواء بالمحاصة او بأجور شهرية، فإنه لم يخرج عن هذه الخصوصية، وهو الذي أبان منذ اليوم الأول من إنتشار الوباء، عن شجاعة قوية في مواصلة العمل، في عز إنتشار الوباء وفي ظروف صعبة للغاية، من حيث فضاءات العمل والتنقل، من أجل ضمان صيرورة القطاع، الذي إستتنته الجهات المختصة من التوقف الناجم عن الخطوات الإحترازية، لمواجهة كوفيد19. لكنه بالمقابل وجد البحار نفسه غير محمي على المستوى الإجتماعي، لاسيما وأن المئات من البحارة، لم يتم التصريح بهم برسم شهر فبراير، الذي اعتمد كشرط لإستفادة من التعويضات التي تم سنّها لدعم المتضررين من الفيروس المستجد. وذلك لظروف إختلفت تفاصيلها بتعدد الروايات والتفاسير المعبر عنها في هذا السياق، والتي سنعود إليها بالتدقيق في مقالات قادمة. فعدم إستفادة البحارة قد أعاد إلى الواجهة المطلب الداعي، إلى إصلاح الأعطاب البنيوية، لنظام الضمان الاجتماعي في علاقته بمهنيي القطاع، وخاصة البحارة، مع ضمان الاعتراف بالأمراض المهنية ، وتمتيعهم بحقهم المشروع، في الاستفادة من مختلف الخدمات التي يستفيد منها الأجراء، خصوصا في ظل الإقتطاعات الكبيرة والدسمة التي تطال حصيلتهم الإنتاجية على ظهر مراكب وقوارب الصيد.
إن حضور البحار كرقم صعب في مواجهة التحديات التي تشهدها البلاد ، قدم إشارات قوية للجهات المختصة من اجل الوقوف على مجموعة من الإكراهات، التي ظلت ولعقود متصلبة داخل القطاع ، حتى أطلقت جدورها فأصبحت تداعياتها أكبر من مخاوف تفشي الوباء، التي أبقت المغاربة في بيوتهم بشكل إجباري لتفاذي الجائحة وأخرجت المواطنين من البحارة إلى البحر. فالسوق السوداء لايزال إلى حدود اليوم ينخر الشغيلة البحرية، مع ما يرافقها من تهرب ضريبي، ولازال العرف يتسيد الحياة المهنية ، ولازالت الفوارق تتغدى من القرابة والمعارف، فتصنع هوة في الكتلة الأجرية، بين مكونات طاقم المركب الواحد، إلى حدود، قد لا يستوعبها الباحث في أغوار القطاع. كما أن البحار لايزال وللأسف بيئة خصبة للإستغلال، خصوصا على مستى الترافع، من طرف الراكبين على الأمواج، والذين يجيدون لعبة التجييش، لا لشيء إلا لتحقيق مصالح تخذم الذات، أكثر منه الواقع البحري، خصوصا مع إنتشار مواقع التواصل الإجتماعي، في ظل تقهقر دور العديد من المؤسسات التي تناط بها مهمة الترافع في علاقتها بالبحار .
فهذه التحديات وغيرها، اصبحت اليوم تفرض على الجهات المختصة تعجيل تجميع النصوص المنظمة للقطاع ، وتضمينها في مدونة للصيد، التي ظل الفاعلون النقابيون ومعهم المهتمون بالشأن القانوني البحري ، يطالبون بإخراجها للوجود، لاسيما في ظل ما تعانيه المنظومة القانونية المتعلقة بالصيد البحري، من تقادم وتشتت، يصعب مامورية التأقلم معها، باعتبارها نصوص قانونية مشتتة، حتى أن هذه النصوص يتعذر ضبطها بين جميع المتداخلين، بدءا من السلطات وكذا المطبقين، وصولا للسلطات الساهرة على تدبير قطاع الصيد البحري. وهو مطلب يراد من خلاله تنظيم القطاع، بصورة تستجيب من جهة لتطلعات الشغيلة البحرية، وتتماشى من جهة ثانية مع التحديات الكبرى، التي بات يفرضها الاشتغال في قطاع، يدر على خزينة الدولة مداخيل هامة، دون أن يستفيد العاملون فيه من حقوقهم الاجتماعية بالشكل المطلوب.
فسؤال الواقع الإجتماعي في قطاع الصيد، هو سؤال سيحضى بكثير من الإهتمام في القادم من الأسابيع، لاسيما في ظل التداعيات الكبيرة لفيروس كورونا على الإقتصاد الوطني ، فالكل يعلم اليوم أن هذه التداعيات سيكون الخاسر الأكبر فيها اليوم هو المكون البشري، مع تضرر الشركات والمقاولات. وقطاع الصيد لن يكون بمنأى عن هذه الأزمات، مع تراجع الطلب على المنتوجات البحرية، سواء على مستوى التصدير وحتى في السوق الوطني، نتيجة للصعوبات المالية، التي يواجهها المستهلك. وهو ما يفرض على الجهات المختصة التحرك بعجالة، لإتخاذ إجراءات إحترازية تحافظ على صيرورة الإنتاج، ومعها اليد العاملة التي تقتات من هذا القطاع، الذي يحتاج بحق لحماية تنافسيته على مسوى الإنتاجية، وكذا على مستوى الحياة اليومية للشرائح المهنية، وعبرها الحياة الإجتماعية للمكونات المهنية .
وإلى جانب مطلب إخراج مدونة الصيد البحري للوجود، يبرز الطلب القديم الجديد ضمن مطالب الشغيلة البحرية ، الداعي إلى تمكين البحارة من تمثيلية كاملة في الغرف المهنية، بإعتبارهم حلقة مهمة في إنتاج السمك، إذ تراهن شريحة البحارة على مراجعة القانون المنظم لغرف الصيد البحري، وضمان تواجدهم الضمني من خلال مكوناتهم النقابية، بالمؤسسة الدستورية، حتى ولو تعلق الأمر بحضور على مستوى الملاحظة. وهو ما من شأنه تقديم قيمة مضافة، وقوة اقتراحية قادرة على تقديم بدائل معقولة ، في كثير من القضايا الشائكة، التي تطرح للنقاش المسؤول، خصوصا وأن مجموعة من القوانين الملزمة للبحارة هي تعرض على أنظار الغرف قبل البث فيها من طرف الوزارة الوصية.
وكخلاصة للتحصيل فإن البحار كشخصية مركبة على المستوى الإجتماعي وكذا المهني والإنتاجي ، يفرض علينا اليوم التعاطي مع قضاياه العادلة بنوع من التأني والإهتمام الكبيرين، لاسيما وأن هذا المكون القطاعي، ظل وعلى الدوام مثالا للتضحية، خصوصا ساعة الأزمات التي يظهر معها معدن الرجال. فكان البحار أول المضحين بالجانب الإجتماعي من أسرة وبيت وأقارب لصالح المهنة والإنتاج ومعه مصلحة الوطن. فقيل “الداخل لبحر مفقود والخارج منه مولود جديد”. ومع الولادة عادة ما نحتاج للكثير من الترتيبات، التي تعزز الحضور في واقع متسارع وملخبط، تحكمه مجموعة من المكونات المترابطة، و التي قد لا تستقيم في ظل الأوضاع التي يعيشها المكون البشري. والذي يحتاج لإعتراف خاص من طرف المكونات الإجتماعية بدوره الكبير ضمن المنظومة الإنتاجية، والإقتصادية للبلاد. فهل ينصف النموذج التنموي الجديد مصالح هذه الشريحة المهنية، بإعتبار التنمية تنطلق من الإنسان لتصل إلى الإنسان؟ وهو سؤال يستمد مشروعيته من أن الدروس المستخلصة من جائحة كورونا، ضمنها يبرز تعزيز الاستثمار في الثروة البشرية بمختلف تشعباتها الإجتماعية والمهنية .