بقلم: عبد الخالق جيخّ
أهدف في هذا المقال إلى مقاربة أزمة قطاع الصيد البحري من زاوية نقدية رمزية، عبر استحضار ما يُعرف بـ (نظرية الحصان الميت)التي تُستخدم في علم الإدارة كأداة ساخرة لتوصيف حالات الإصرار على سياسات فاشلة أو بنيات متآكلة، دون الاعتراف بالحاجة إلى تغيير جذري. فمن خلال قراءة تحليلية لمظاهر الاختلال البيئي والاجتماعي والاقتصادي التي يشهدها هذا القطاع، يُبرز المقال كيف أن آليات الإنكار، والتجميل، والتسويف تحلّ محلّ المعالجة الحقيقية، مما يؤدي إلى تأجيل الاعتراف بالأعطاب وتفاقمها، بدلًا من مواجهتها بشجاعة ووضوح.
إن نموذج (الحصان الميت) ينطبق بشكل لافت على واقع الصيد البحري، حيث تتراكم المؤشرات الدالة على الإنهاك البيئي والإجتماعي، في مقابل إصرار بعض الفاعلين والمؤسسات على تجميل الواقع أو إعادة تدوير نفس الاختيارات التي أنتجت الأزمة. لدى فتشخيص مؤشرات (موت الحصان ) في قطاع الصيد تبرز في الإستنزاف والضغط على المخزون السمكي، ثم هشاشة البنية الاجتماعية للبحارة وبيروقراطية التجميل بدل المعالجة.
1. الإستنزاف والضغط على المخزون السمكي
فقد أظهرت تقارير علمية وطنية ودولية تراجعًا مقلقًا في وفرة العديد من الأنواع السمكية، مثل السردين، الأخطبوط، التونة، والأربيان، نتيجة الصيد الجائر والضغط المفرط على المصايد. هذا التدهور لم يكن نتيجة عوامل طبيعية فقط، بل ناجم أيضًا عن سياسات غير محسوبة العواقب. وكمثال صارخ على ذلك، هو قرار وقف الاستثمار سنة 1992، الذي صاحبه تحوّل في بنية الأسطول من مراكب بسعة 30 طناً إلى أخرى تفوق 100 طن، ورفع قوة المحركات من 150 إلى أكثر من 500 حصان، ما فاقم الضغط على المخزون السمكي.
كما أن في فبراير 2010 تم إطلاق برنامج تهيئة الأسماك السطحية الصغيرة، والذي هدف إلى ملاءمة الاستغلال مع قدرة المخزون، ورفع الطاقة الإنتاجية لوحدات التصبير، وتحسين استهلاك المنتوج محليًا. وكذا تثمين الكميات المصطادة وتطوير مسالك تسويقية. حيث ثم فتح المجال للمصنعين وللولوج المباشر للمخزون السمكي السطحي ، مستعملين مراكب عملاقة اتت على الاخضر واليابس ، تضاعف الضغط بدل تخفيفه. ورغم مؤشرات الإنذار المتكررة، استمر الخطاب الرسمي في الحديث عن (الإقلاع الأزرق)و(تثمين المنتوج )، بينما الواقع يُنذر بإفلاس بيولوجي تدريجي وتدهور بيئي خطير. ولم يُقابل هذا التدهور بتقييم موضوعي أو إعادة هيكلة جذرية لنظام الرخص والجهد الكلي المسموح به لهذه المصايد، بل تُرِك القطاع رهينة للوبيات نافذة، أفرزت وضعًا لا يُمكن المساس به بسهولة.
2. هشاشة البنية الاجتماعية للبحارة
رغم أهمية القطاع من حيث التشغيل، يعاني عدد كبير من البحارة من الهشاشة الإجتماعية، في ظل غياب حماية فعلية مرتبطة بمداخيل غير مُصرّح بها في معظم الموانئ، وضعف في التكوين والسلامة، واهتراء المراكب، وغياب تعويضات عادلة. وفي المقابل، تتركّز الأرباح بين أيدي أقلية من كبار المجهزين والمستثمرين، ما يُكرّس اختلالًا بنيويًا في توزيع الثروة ويُضعف صمود الفئات العاملة.
وكأمثلة صارخة على امتطاء (الحصان الميت) تبرز يروقراطية التجميل، بدل المعالجة من خلال إعادة تدوير نفس السياسات رغم فشلها الصريح. واجترار خطابات عن (التثمين)، (الاستدامة)، و(المراقبة)دون تفعيل واقعي. وتغيير أسماء البرامج والمؤسسات، تغيير مديرين ، تنقيل واعادة تنقيل مناديب، دون مساس بجوهر الاختلال. ثم تحميل المسؤولية للربابنة أو السوق السوداء، دون البحث عن مسبباتها وعدم مساءلة البنية العميقة للقطاع التي تفجرت فضيحتها في حضور مدير الصيد في اجماع رسمي بين قطبي( البيلاجيك )وأعالي البحار ، فالاستقواء على المهنيين الصغار، في وقت يستنزف فيه المورد السمكي من طرف مراكب شبه غير مراقَبة. كل هذه الإجراءات أشبه بتغيير السرج على حصان ميت.
السؤال المطروح لماذا تستمر هذه الظاهرة؟ وهنا الجواب ينطلق من الممارسة غبر الإنكار السياسي المريح، لأن الاعتراف بالأزمة يعني فتح ملفات الاحتكار، الفساد، وفشل التخطيط. ثم شبكات المصالح حيث الإستفادة من بقاء الوضع على حاله، مع تفشي الشراء المباشر دون مزاد علني حقيقي،رغم تقارير مجلس المنافسة، وغياب التقييم المستقل، إذ لا توجد آلية فعالة لتقييم السياسات بشكل حيادي. دون إغفال الخطاب التزييني، عبر استخدام عبارات مثل (الإقلاع الأزرق) لإخفاء الأزمة الهيكلية. وآخيرا التهوين الإعلامي والإحصائي، حيث يتم تضخيم المنجزات وتغييب مؤشرات الإنذار والاستياء الاجتماعي. وهي كلها معطيات تؤكد أن الإشكال بنيوي ويحتاج إلى تدخل سياسي شجاع، يعيد ترتيب الأولويات على أساس الاستدامة والعدالة.
نحو مقاربة إصلاحية بديلة
إن الاعتراف بـ(موت الحصان)لا يعني الاستسلام، بل يُشكّل أول خطوة في مسار الإصلاح الحقيقي. من بين التوجهات الممكنة التي سبق ان اقترحت يبقى التفكير الجدي في تطوير ادارة المراقبة، الى كيان مستقل كخلق (الوكالة الوطنية لتدبير والمحافظة و مراقبة المخزون السمكي)٠
كما سبق ان نوقش في عهد السيد قيصر الغائب المدير العام السابق للمكتب الوطني لصيد، مع ضرورة إحداث بورصة السمك السطحي مع آليات رقمية تخرجنا من التيه. والعمل على إعادة هيكلة نظام الرخص والكوطات وفق سقف بيولوجي واضح. ناهيك عن فتح باب المغادرة الطوعية لتقليص الأسطول تدريجيًا.
كما تطلب الرؤيا الإصلاحية فرض المركب النموذجي بدفتر تحمّل صارم خلال فترة انتقالية لا تتعدى سنتين. وتوزيع عادل للقيمة المضافة يحمي حقوق البحارة ويعزز العدالة الإجتماعية. مع إحداث هيئة مستقلة للتقييم تضم مهنيين ذوي تجربة ميدانية واستقلالية مؤسساتية.اي مجلس وطني يضم مناديب سابقين مراقبين سابقين ،خبراء ظباط ممارسين سابقين ، والإنفتاح على مقترحات المجتمع المدني والمهني لتعزيز الثقة في القرار العمومي. مع التأكيد على ان استمرّ صانعي القرار في امتطاء الحصان الميت، فإن القطاع لن يتقدّم خطوة إلى الأمام. لأن الإنكار يُنتج حتما الجمود، والتزيين يُخفي الأعطاب، وتكرار الفشل حقا لا يصنع النجاح. لدى فالصيد البحري في المغرب لا يحتاج إلى سرج جديد، بل إلى حصان جديد تمامًا، بمسارات أوضح، أهداف أعدل، ورؤية أكثر واقعية.
*عبد الخالق جيخ: فاعل كنفدرالي سابق وناشط جمعوي في قطاع الصيد، مدون مهتم بقضايا الصيد البحري