تشهد موانئ الصيد البحري بالمملكة حالة من الاستنفار الصامت، بعد حادثة سرقة مركب “الحسين” واستعماله في عملية هجرة سرية صوب السواحل الإسبانية. فالواقعة أعادت تسليط الضوء على شريحة طالما اشتغلت في الظل، حراس المراكب.
وتؤكد مجموعة من المؤشرات على مستوى الموانئ الوشطى، انطلاق عمليات إحصاء دقيقة وتحقيقات موسعة في الموانئ، تتصدرها مدينة أكادير التي كانت مسرحًا لواقعتين متتاليتين لسرقة المراكب، خلال فترة لم تتجاوز ثلاثة أشهر، وهي عملية تضع حراس المراكب في صلب الاهتمام الأمني والمؤسساتي. ما يؤكد أن هناك توجه صارم في معالجة مجموعة من الإختلالات البنيوية التي تهم تأمين هذه المهام على متن مراكب الصيد، خصوصا وأن القانون البحري لا يسمح قانونًا لأي شخص لا يحمل دفترًا بحريًا أو ترخيصًا مؤقتًا “Provisoire” بالتواجد فوق ظهر المركب، ومع ذلك، نجد في كل مركب تقريبًا حارسًا أو أكثر يمارس عمله خارج أي تغطية قانونية واضحة.
فحسب عدد من المهتمين، إن هذه الواقعة لم تفضح فقط هشاشة تأمين أمن المراكب، في ظل تداخل السلط وتنوع المتدخلين ، بل كشفت عن هشاشة وضعية من نُوكل إليهم مهمة الحراسة أنفسهم. فهؤلاء الحراس، رغم التضحيات الكبيرة التي يبذلونها لحماية مراكب الصيد من التخريب أو السرقة أو حتى الغرق، ظلوا خارج دائرة الاعتراف المؤسسي، يعانون من أوضاع قانونية رمادية، ومكانة مهنية غير واضحة، ومسؤوليات لا تتناسب مع حقوقهم المهدورة. وهو ما يفتح الباب لتحفيز ردود أفعال إنتقامية لاتقل جرأة عن هذا الحدث الذي لا يمكن وصفه بالمعزول، حتى وإن كانت الواقعة لا يمكن الحديث عنها بصيغة التعميم في ظل وجود حراس راكموا سنوات، إن لم تكن عقود في خدمة مراكب الصيد، وتأمين أمنها وسلامتها بالموانئ بكل تفاني ونكران الذات. ولسان حالهم ينطق “بالله يخرج السربيس على خير”.
فواقع الحال يؤكد أن العديد من الحراس الحاليين هم في الأصل بحارة سابقون اضطروا للتوقف عن الخروج في رحلات الصيد لأسباب مختلفة، ليجدوا في الحراسة ملاذًا موقتًا تحول مع مرور الوقت إلى مهنة دائمة بحكم الأمر الواقع. فيما إختار آخرون منذ البداية امتهان هذه المهام المحفوفة بالمخاطر.. في المقابل، هناك فئة ثالثة تتولى مهمة الحراسة طمعًا في إدماج مستقبلي ضمن قائمة البحارة النظاميين، منتظرين فرصة التسجيل ضمن حملات “التسجيلات البحرية”، التي تُفتح بين الحين والآخر بدعم من المجهزين أو الربابنة، أملًا في الحصول على الدفتر البحري الذي يُعد بوابة رسمية للاعتراف.
وفي انتظار هذا “الموعد الموعود” يكرس هؤلاء الحراس وقتهم لحراسة المراكب بما تحتاجه هده المهام من مجهود خرافي وتضحية، إذ يُبقون أنفسهم على أهبة الاستعداد في الموانئ، متنازلين عن مشاركة أسرهم أفراح المناسبات والأعياد، حفاظًا على الثقة التي يبنونها بصبر وتأنٍّ، لعلها تترجم لاحقًا إلى ترسيم أو ترقية. لكن الواقع كثيرًا ما يخيب آمالهم، إذ تؤكد شهادات متقاطعة أن الأولوية غالبًا ما تُمنح في حملات التسجيل لأقارب ومعارف المجهزين والربابنة، في حين يتم تجاهل الحراس الذين قضوا سنوات طويلة في حماية المراكب، دون سند قانوني أو اجتماعي. وهو معطى تتولد عنه تراكمات قد تنفجر مع الوقت، وقد تتحول لردود أفعال صداميةـ وحتى إنتقامية بما فيها ممارسات غير مشروعة على متن المراكب .
وقد شكلت حادثة سرقة “مركب الحسين” تعبيرا صارخا عن خلل هيكلي في تدبير الموارد البشرية في قطاع الصيد الساحلي على الخصوص، حيث لا يمكن الاستمرار في إسناد مسؤوليات حساسة إلى فئة مهمّشة، دون تكوين أو اعتراف قانوني. وفي ظل ما يناط بهؤلاء من مهام حيوية، من بينها مواجهة تسربات المياه، والتدخل الفوري في حال الحريق أو الأعطاب المفاجئة، بل وأحيانًا تحريك المراكب وسط الزحام البحري تفاديًا للخطر، يصبح من الضروري ليس فقط تنظيم المهنة، بل إطلاق برامج تكوين وتأهيل تستجيب لمستوى المسؤوليات الملقاة على عاتقهم.
إلى ذلك طفت على السطح في السنوات الآخيرة، مطالب جادة بتأهيل الحراس، والاعتراف بهم بصفتهم الواقعية “حرّاس مراكب”، كشريحة مهنية قائمة بذاتها، لها من الخصوصية ما يبرّر تنظيمها وضمان حقوقها، كما يقتضي منها الالتزام بواجباتها. وذلك بالنظر لحساسية المهام المنوطة بها . وهو ما يتطلب من الوزارة الوصية تحركًا فاعلا لتقنين وضع هذه الفئة وتحديد حدود مسؤولياتها، بما يُنهي حالة التسيب التي تجعل الموانئ مهددة أمنيًا، ويمنح الحراس الحد الأدنى من الضمانات المهنية.
لقد آن الأوان لوضع حد لهذه الوضعية الملتبسة. فحُرّاس المراكب ليسوا غرباء عن المسؤوليات المنوطة بالأطقم البحرية ، بل جزء من نسيجها الحيوي. وإصلاح المنظومة البحرية يبدأ من الاعتراف بكل من يسهر على أمنها واستمرارها. فإذا أردنا حماية موانئ الصيد، فعلينا أولًا حماية من يحرس المراكب ، لا تركهم في مهب الإهمال واللامبالاة. وفي النهاية، فإن الثقة لا تُبنى بالنيات، بل بالسياسات التي تُعيد الاعتبار لأصحاب الأدوار الخفية، وتمنحهم ما يستحقونه من تقدير وكرامة ومكانة.