كان الباحث الجامعي الإسباني المعروف الدكتور ماريانو أرّيباس بالاو قد قدّم هذه الوثائق أواخر التسعينيات من القرن المنصرم في مداخلة له تحت عنوان: “وثائق حول كنارياس في الأرشيف التاريخي الوطني قسم شؤون الدّولة، ملفّ رقم 3565 صندوق رقم 2 في إطار الحوار التاريخي الكناري الأمريكي”. ولهذه الوثائق التاريخية صلة وثقى بحادث غرق أو جنوح سفينة الصّيد الكنارية المُسمّاة نويسترا سينيورا دي أنغوستياس (Nuestra Señora De Angustias) أمام رأس بوجدور عام 1784 .
شهادة وثقى من التاريخ
جاء ذلك مُوثّقاً ومُدوّناً ومُثبتاً ثبوتاً راسخاً في كتاب “الحوار التاريخي الكناري- الأمريكي” (قسم كنارياس وشمال غرب إفريقيا المجلّد الثالث ص 54) ضمن مجموعة من الوثائق التاريخية والمراسلات الرّسمية الإسبانية- الكنارية، وفيها، أو من خلالها، نقف، بشكلٍ صريح وواضح، على اعتراف إسبانيا والتاريخ بسيادة المغرب على رأس بوجدور في الصحراء الغربيّة، وذلك على إثر جنوح سفينة صيد كنارية عام 1784 قبالة السّواحل المحاذية للصّحراء. ومن هنا تبدأ القصّة عن هذه الحقيقة التاريخية المثيرة التي لا يرقى إليها شكّ ولا ريبة .
يتّضح لنا من خلال هذه الوثائق، والحالة هذه، كيف أنّ كلاّ من القنصل الإسباني في المغرب، خوان مانويل غونساليس سالمون، والجنرال ماركيز دي برانثيفورتي، حاكم جزر الخالدات، أبلغا رسميّا عن حادث الغرق الذي تعرّضت لها السفينة الآنفة الذكر إلى السيّد كوندي فلوريدا بلانكا، الوزير الأوّل الإسباني في ذلك الإبّان، معترفين جميعاً، ضمنيّا، بما لا يترك مجالا للشكّ، بسيادة عاهل المغرب على هذه المنطقة من الصّحراء الغربية على عهد السلطان المولى محمّد بن عبد الله (معروف عنه تاريخياً اهتمامه بالصّحراء المغربية الذي جدّد ولاية شيوخ قبائلها في العديد من المناطق والجهات مثل واد نون، وأدرار، وماسّة، والسّاقية الحمراء وسواها من المناطق الأخرى…)
وجاء في النصّ المتعلّق بهذا الموضوع، بالحرف الواحد، ما يلي: “في أواخر شهر غشت من هذه السنة (يقصد 1784) بعد أن غادر مركب الصّيد الإسباني (نويسترا سينيورا دي أنغوستياس) جزر الكناري وعلى متنه 27 صيّاداً من البحّارة الكنارييّن يتألّف منهم طاقم المركب متوجّهاً إلى السّواحل الإفريقية لجمع السّمك المجفّف والمملّح الذي يستعمل كغذاء لمعظم سكّان هذا الإقليم، صادف هذا المركب سوء الطّالع حيث ارتطم بالشطّ في شهر سبتمبر عند المكان المُسمّى رأس بوجدور في السّاحل الإفريقي العائد لملك المغرب (كذا) ولم ينجُ هذا المركب من قدره المحتوم، كما لم يتمكّن من التخلّص من النتائج التي ترتّبت عن هذا الحادث “.
مناشدة عاهل المغرب عام 1784
وممّا جاء في هذه الرسالة كذلك: “ولقد بثّ هذا الحادث الرّعبَ والهلعَ في ما يقرب من ثمانين شخصاً من بينهم نساء وآباء وأطفال ليس لهم من عائل سوى هؤلاء البحّارة المنكوبين”. وتضيف الرسالة: “وفيما يلي قائمة هؤلاء الذين خلّفت نكبتهم أثراً بليغاً في قلوب جميع الوزراء (المستشارين) في هذا المجلس الجزيري الذين طلبوا منّي أن أخبركم بهذا الأمر والذي أنفّذه وأنا أشعر بمشاعر الأسى والحزن نفسها، وَاعِزِي في ذلك أيضاً هو ما نسعى إليه من تطوير وتنمية لقطاع الصّيد البحري”. ويضيف الحاكم العسكري، الجنرال ماركيز دي برانثيفورتي، في رسالته إلى الوزير الأوّل الإسباني قائلا: “وأرجو من معاليكم التفضّل بإشعار جلالة الملك حتى يطالب عاهلَ المغرب بعودة هؤلاء الأشخاص لتعمّ السكينة قلوبهم وأهاليهم وذويهم نظراً لما جُبل عليه جلالتُه من شفقة فطرية” (هناك نسختان من هذه الرسالة ضمن الرّزمة المذكورة) .
وفي هذا السّياق، يخبر القنصل الإسباني في المغرب، خوان مانويل غونساليس سالمون، كذلك الوزير الأوّل، كوندي دي فلوريدا بلان، بتاريخ 18 ديسمبر من السنة نفسها مشيراً إلى أنه: “في السّابع من هذا الشهر كان قد كتب إلى ملك المغرب حول مسألة 27 بحّاراً كناريّاً الذين جنحت سفينتهم في المنطقة الآنفة الذكر”، ويعود تاريخ جواب الوزير الأوّل الإسباني، كوندي دي فلوريدا بلانكا، عن رسالة المركيز، برانثيفورتي، إلى 25 يناير 1785 وقد جاء فيها ما يلي: “جواباً على رسالتكم في 3 نوفمبر التي تتعرّض لنكبة المركب الكناري نويسترا سينيورا دي لاس أنغوستياس الذي كان قد غادر جزيرة غران كناريا في نهاية شهر غشت، والذي ارتطم في رأس بوجدور قبالة السواحل الإفريقية، يمكنني القول إنّ قنصل صاحب الجلالة في طنجة، دون خوان مانويل سالمون، هو على علم بهذا الحدث، وقد حاول التعرّف بشتّى الوسائل على مكان تواجد البحارة السبعة والعشرين الذين كانوا على ظهر المركب الإسباني المنكوب، وقد علم فيما بعد أنّهم يوجدون في أماكن غير بعيدة من مكان الحادث تقع بعضها تحت سيطرة مولاي عبد الرّحمن، نجل ملك المغرب، الذي كان يرفض الانصياع لنفوذ والده (كذا)، كما تقع أماكن أخرى تحت هيمنة بعض الخواص من سكّان المنطقة، كما يوجد بعض هؤلاء في أماكن موغلة في الصحراء”.
وتشير الرّسالة إلى أنه، حتى وإن لم يصل نفوذ عاهل المغرب بصفة مطلقة بعض الأماكن النائية، إلاّ أنّه بهدف التوصّل إلى إطلاق سراح هؤلاء 27 بحّاراً، فإنه كان لابدّ ولا مناص من مناشدة حماية العاهل المغربي ودعمه في هذا المسعى حتى ولو استدعى الأمر استعمال عدّة وسائل أخرى غير مباشرة .
وتؤكّد الرّسالة أنّ تلك كانت هي رغبة ملك إسبانيا رأفة بهؤلاء العاثري الطالع، وإشفاقاً على عوائلهم وذويهم، وقد أصدر تعليماته للقنصل المذكور لمتابعة هذا الموضوع عن كثب وبعناية خاصّة.
العاهل المغربي يستجيب
وبتاريخ 15 يناير 1785، يخبر القنصل الإسباني بمدينة طنجة، الكونت فلوريدا بلانكا، بما يلي: “إنّه من نتائج الاتصالات التي أجريتها بتاريخ 7 ديسمبر الأخير لدى جلالة ملك المغرب حتى يعمل على تحرير هؤلاء 27 بحّاراً كنارياً الذين كانوا في حوزة عرب واد النّون والذين صادفهم سوء الحظّ وارتطموا بذلك السّاحل، فإنّ عاهل المغرب قد أجابني على ظهر رسالتي نفسها أنّه قد أصدر أوامره لهذه الغاية وأنه بعد أن يصل هؤلاء إلى حضرته العليّة فإنّه سوف يعمل على إرسالهم لي”.
وفي تاريخ 23 فبراير، يكتب الوزير الأوّل الإسباني، الكونت فلوريدا بلانكا، إلى المركيز دي برانثيفورتي، الحاكم العسكري لجزر الكناري، حول الموضوع نفسه قائلاً: “تتضمّن النسخة المرفقة خبراً مفاده أنّ القنصل العام لملك المغرب قد أبلغني ضمن رسائله الأخيرة حول إطلاق سراح بعض الأسرى الكناريين الذين غرقت سفينتهم في شهر نوفمبر في تلك السّواحل، والأمل في أن يلتحقوا جميعهم بمنازلهم سالمين، وإنه لمن دواعي سروري إبلاغكم بهذه الأخبار حتى تعملوا بدوركم على إبلاغها لمجلسكم ولسائر الأشخاص الذين يعنيهم الأمر”.
وبتاريخ 16 مارس، يوجّه الجنرال الحاكم العام الكناري الرسالة التالية مجيباً الوزير الأوّل الإسباني، الكونت فلوريدا بلانكا قائلاً: “إنّ الخبر الذي تفضلتم معاليكم بإبلاغي إياه بتاريخ 25 يناير الأخير حول العناية الفائقة، والمساعي الحميدة التي اضطلع بها قنصل صاحب الجلالة بمدينة طنجة بغاية العمل على إطلاق سراح 27 رجلاً الذين كان يتألّف منهم طاقم مركب نويسترا سينيورا دي لاس أنغوستياس، الذي ارتطم في رأس بوجدور الواقع على السّاحل الإفريقي العائد لملك المغرب (كذا)، كما أنّ الاهتمام البالغ الذي أبداه صاحب الجلالة الذي أصدر تعليماته ليحاط هذا الأمر بالعناية الخاصّة، كلّ ذلك كان له أبلغ الأثر في هذا الإقليم، ونظراً للعطف الذي يشعر به جلالة الملك في قلبه الطيّب فقد قمت بإبلاغ المجلس الجزيري، وكذا عائلات هؤلاء المنكوبين بالأمر الملكي، وقد أكّد لي ممثّلهم في هذه الجزيرة أنّ الدموع قد انهمرت أمام الملأ فرحاً واستهلالاً بهذا الأمر الملكي، وقد صاحت الحناجر بالدّعاء له بطول عمره الغالي وهو ما يرجوه دائما من العليّ القدير جميع الذين يتشرّفون بخدمة جلالته في هذه الجزر”.
عودة البحّارة الكنارييّن إلى أهاليهم
وجاء في هذه الوثائق: “وهكذا يتّضح لنا من خلال هذه الرسائل كيف أنّ مساعي القنصل الإسباني في المغرب قد توّجت بالنجاح بفضل مساعدة ملك المغرب”.
وتشير هذه الوثائق عرضاً كيف أنّ مولاي عبد الرحمن، نجل السلطان، قد عاد إلى بلاط والده ليطلب منه الصّفح والغفران- حسب المصدر أعلاه- وقد أسهم هذا الحدث في التوصّل إلى النهاية السّعيدة للبحّارة الكناريي .
ونجد ضمن هذه الوثائق رسالة للقنصل الإسباني، مانويل غونساليس سالمون، موجّهة للوزير الأوّل الإسباني، الكونت فلوريدا بلانكا، جاء فيها: “أمس وصل إلى هذه المدينة (يقصد طنجة) سيدي الطّاهر عبد الله فنّيش الذي سلّم لي عشرة إسبانييّن من البحّارة الذين كانت قد غرقت سفينتهم قرب نهر النّون، وسوف أعمل على أن يبحروا على البارجة الوطنية التي توجد بهذا الخليج لشحن القمح إلى قادس”.
وتضيف الرّسالة نفسها: “هؤلاء الناس يوجدون في حالة جيّدة، وهم يرتدون أرديةً متواضعة، وكان العاهل المغربي، كما أخبرت معاليكم من قبل، قد أمر بتنظيفهم عندما استقدموهم إلى المغرب، وأنه في واد النّون لم يبق هناك سوى كناري واحد في مقتبل العمر، حيث حكى لي هؤلاء البحّارة العائدون أنّه آثر البقاء والمكوث هناك بعد أن أرغمه مولاه على ذلك مهدّداً إيّاه”، إلى أن يقول: “وإنّه من الصّعوبة بمكان الآن استرجاعه”.
ويشير القنصل الإسباني في الرسالة نفسها إلى أن: “اثنين من هؤلاء البحّارة قد توفّيا هناك، وأنه إذا أضيف 14 بحّاراً الذين سبق أن سلّمنا إيّاهم صاحب الجلالة ملك المغرب إلى 10 المذكورين وإلى 2 اللذين توفّيا هناك، وواحد مكث هناك، يكون الحاصل 27، وهو مجموع الذين كانوا على ظهر المركب الكناري عندما غرق في ذلك المكان”.
وقد استقيتُ جميع هذه الوثائق والمعلومات من كتاب “الحوار التاريخي الكناري- الأمريكي، قسم كنارياس، شمال غرب إفريقيا المجلّد الثالث (صفحة 54) عن مكتبة بلدية جزيرة “غران كاناريا” بأرخبيل الخالدات.
سيادة المغرب على صحرائه
وهكذا تؤكّد جميع هذه الوثائق التاريخية، والوثائق والمراجع والمظانّ- كما يلاحظ القارئ الكريم – وكما ينبغي أن تعرفه وتعيه جيّداً (السّويد) وكلّ من يدور في فلكها، بما لا يترك مجالاً للرّيبة والشكّ، كيف أنّ الحكّام الكناريين والإسبان لم يجدوا بدّا، منذ وقت مبكّر من التاريخ، من مناشدة ملوك المغرب من أجل الاستغاثة واسترجاع بحّارتهم المفقودين، الشيء الذي يثبت ويؤكّد بشكلٍ حاسمٍ وقاطع سيادة المغرب على امتداد التاريخ على مختلف مناطق وأصقاع وسواحل صحرائه المسترجعة.
وهكذا تُضاف هذه الوثائق التاريخية الإسبانية الرّسمية التي تعود لتاريخ 1784 إلى العديد من مثيلاتها من الوثائق والمستندات التاريخية الأخرى، وإلى الفيض الهائل من المراجع، والمصادر، والمظانّ، والأغراض الأدبية، والنصوص، والرّحلات، والأسفار، والأشعار وسواها من الوثائق، والمدوّنات التي لا حصر لها، التي تكتسي أهمية بالغة عن تاريخ تلك المناطق من الأقاليم والأرباض والضواحي والتخوم الصّحراوية، كما أنها تبيّن بجلاء، والحالة هذه، مدى الوشائج المتينة، والأواصر المكينة، والصّلات الوثقى التي لا انفصامَ لعُراها لسكّان الأقاليم الجنوبية بالوطن الأب.
محمّد محمّد الخطّابي عضو الأكاديمية الإسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم- بوغوطا- (كولومبيا).
*جميع الوثائق المُدرجة ضمن هذا المقال تمّت ترجمتها عن مصادرها الأصلية باللغة الإسبانية من طرف كاتب هذه السّطور
المقال نشر بهسبريس