في ظل تصاعد الدعوات البيئية والحقوقية الموجهة لقطاع الصيد البحري بالمغرب، تعالت أصوات مهنيين وخبراء في الشأن البحري للمطالبة بفتح نقاش وطني جدي حول ظاهرة التخلي عن الأسماك المصطادة في البحر، وهي ممارسة باتت توصف اليوم بأنها من أخطر التهديدات التي تواجه استدامة المصايد الجنوبية للمملكة، بالنظر إلى انعكاساتها البيئية والاقتصادية والبيولوجية على الثروات البحرية.
الأسماك المرجوعة إلى البحر، والتي يتم صيدها عرضًا أو في إطار ما يُعرف بـ”الصيد غير المستهدف”، تمثل اليوم إحدى أبرز النقاط السوداء في سلوكيات الصيد البحري، والتي تتناقض مع مبادئ الحوكمة البيئية المستدامة. إذ غالبًا ما تُلقى هذه الأصناف إلى البحر بعد أن تكون قد تعرضت لإجهاد كبير بفعل الشباك، لتعود جثثًا هامدة، أو في حالة لا تسمح لها بالبقاء على قيد الحياة.
وعلى الرغم من أن مشروع القانون رقم 95.21، الذي يعدل ويتمم الظهير الشريف بمثابة قانون رقم 1.73.255 المنظم للصيد البحري، قد خصّ هذه الإشكالية بفصل جديد (الفصل 10-1)، ينص على وجوب تسجيل جميع عمليات إعادة الأصناف إلى البحر من قبل ربان السفينة، وفق شروط تقنية وتنظيمية تحدد لاحقًا، إلا أن العديد من الفاعلين يعتبرون هذا التوجه غير كافٍ للحد من الظاهرة، بل إنه يكرّسها من حيث الشكل، بدل أن يضع حدًا لها من حيث الجوهر.
فالقانون، رغم تقدمه النسبي، يكتفي بإرساء آلية للتوثيق والمراقبة دون أن يضع حدودًا صارمة لهذا النوع من الممارسات، التي قد تصل في بعض الأحيان إلى مستوى “المجزرة البيئية”، خصوصًا إذا تعلق الأمر بأصناف حساسة، أو بأسماك في فترات التوالد، أو في مناطق مهددة بالاستنزاف. وفي هذا الصدد، يستحضر العديد من الفاعلين المهنيين والبيئيين في تصريحات متطابقة لجريدة البحرينوز، التجربة الأوروبية التي اعتمدت، منذ سنة 2017، قانونًا يُلزم السفن بعدم التخلص من أي نوع من الأصناف المصطادة، كيفما كانت وضعيتها القانونية أو حجمها التجاري، في أفق ترشيد المجهودات المبذولة في محاربة الهدر البحري، وتحقيق العدالة الإيكولوجية في استغلال الموارد الطبيعية.
ويشدّد هؤلاء على ضرورة أن تتجاوز المقاربة القانونية في المغرب مجرد التوثيق والمراقبة، لتنتقل نحو منع شامل وصريح للتخلي عن الأسماك، مع اعتماد بدائل مبتكرة في تدبير الصيد العرضي، سواء عبر تحفيز استغلاله بشكل مسؤول، أو توجيهه نحو البحث العلمي، أو تحويله إلى مواد ثانوية ذات جدوى اقتصادية واجتماعية.
كما يحذر باحثون في علوم البحار ، تحدثث إليهم البحرنيوز في وقت سابق ، من أن الاستمرار في تجاهل هذا السلوك، سيؤدي لا محالة إلى اختلالات عميقة في السلاسل الغذائية البحرية، وفقدان التنوع البيولوجي، وتدهور الإنتاجية السمكية على المدى المتوسط والبعيد، خاصة في ظل مؤشرات التغير المناخي، وضغوط الاستغلال المفرط للمصايد. ويؤكد هؤلاء أن المعالجة الحقيقية للظاهرة تمر عبر نهج تشاركي، يستحضر رأي المهنيين والعلماء والمجتمع المدني، ويضمن العدالة بين مختلف مكونات القطاع، مع الاستثمار في التكوين والتوعية وتحفيز الابتكار في وسائل الصيد ومعدات الفرز، بما يحد من نسب الصيد غير المستهدف.
وفي خلاصة القول ، فإن الأمر لا يتعلق فقط بسلوك فردي لمهني أو ربّان، بل بمنظومة تحتاج إلى مراجعة عميقة في ضوء التحولات البيئية الراهنة، والتزامات المملكة الدولية في مجال حماية البيئة البحرية. فالأسماك المتخلى عنها ليست مجرد “فضلات بحرية”، بل كائنات حية تتعرض لإبادة صامتة، وسط صمت تشريعي لا يرقى إلى جسامة التحدي.