تواصل واقعة وصول مركب “الحسين” إلى السواحل الإسبانية وجنوحه بمنطقة صخرية إثارة ردود الأفعال قوية في الأوساط المهنية بالقطاع ، خصوصا وأن الواقعة تعد إستنساخا طبق الأصل لواقعة مماثلة تمت قبل قرابة ثلاثة أشهر بميناء أكادير ، عند مغادرة مركب لاكلونتين ، وقبلها واقعة أخرى قبل سنوات بالحسيمة فيما طال العملية الكثير من قوارب الصيد التقليدي على مستوى موانئ المملكة، ما يجعل من مثل هذه الوقائع تصنف في حجم الظاهرة المؤرقة ، التي جعلت المجهزين يتخبطون في دوامة من الشك والتوجس المصحوب بعدم اليقين.
فحادثة مغادرة مركب الصيد “الحسين” لميناء أكادير وهو بالمناسبة مركب بحجم ترصده الأعين من بعيد ، ووصوله للجرز الإسبانية لم تكن مجرد واقعة عرضية أو زلة عابرة، بل صدمة حقيقية للرأي العام المهني وضربة موجعة لصورة الميناء . فأن يغادر مركب صيد معروف المركب المينائي ، دون استيفاء أدنى الشروط القانونية، وعلى متنه أشخاص لا ينتمون للطاقم المرخّص له، فذلك يرقى إلى فضيحة تستدعي المكاشفة والمحاسبة قبل أي تبرير أو تسويف. خصوصا وأن المجهزين ومعهم السلطات لم يلتقطوا الدرس، وهم الذين إكتووا بواقعة مماثلة قبل أسابيع فقط، لا زال ملفها مفتوح أمام السلطات رغم إستعادة المركب المسروق .
فكيف يمكن لمركب صيد أن يغادر الميناء دون إذن رسمي؟ أين كانت أعين الإدارة المينائية والحراسة المفترض أنها العين الساهرة على حماية أمن الميناء؟ ومن سمح لعمال حراسة أن يتحولوا بين عشية وضحاها إلى “طاقم بحري” أو قراسنة إن صح التعبير؟ وإذا كان البحرية الملكية قد تحركت بسرعة، مدعومة بمروحية استطلاع عسكرية، فلماذا لا يزال الغموض قائماً حول ما إذا جرى توقيف المركب أو تركه يواصل الإبحار خارج المياه الوطنية؟ هذه الأسئلة ليست للإثارة الإعلامية ، بل جوهر النقاش حول مسؤوليات موزعة بين مجهز المركب المنكوب ، وإدارة الميناء، وجهاز الحراسة، وباقي السلطات المتدخلة ..
فالأمر الأخطر هو أن هذه الحادثة ليست الأولى من نوعها، بل تأتي ضمن سلسلة وقائع متفرقة عرفتها موانئ المغرب في العقد الآخير، وبالتالي فتكرار هذه الحوادث لم يعد مجرد خلل عرضي، بل يضعنا أمام مشهد أقرب إلى التنظيم الإجرامي، حيث يمكن لشبكات التهريب أن تجد فيه منفذاً لتنفيذ مخططاتها. والمفارقة أن الحلقة الأضعف في هذه المعادلة هي فئة حُرّاس المراكب، الذين يُطلب منهم أن يكونوا كل شيء في آن واحد: حراس أمن، ورجال إطفاء، وفنيي طوارئ… لكن من دون أي اعتراف قانوني، أو تكوين مهني، أو تأطير مؤسساتي يليق بحجم المهام الملقاة على عاتقهم. لقد تُرك هؤلاء في الهامش، محاصَرين بالهشاشة، عرضة للاستغلال، ما يجعلهم ـ في غياب سياسة إدماج عادلة وحماية حقيقية ـ ثغرة خطيرة تهدد المنظومة من الداخل، وتسهّل على الجريمة المنظمة اختراق الموانئ من أوسع أبوابها.
كما أن نجاح المراكب في الخروج من الموانئ وكذا من المياه المغربية ، هو يفضح بعض الثغرات الحاصلة في منظومة الرقابة. فلا معنى لتقنية التتبع عبر الأقمار الاصطناعية إذا لم ترافقها إرادة حقيقية في تطبيق القانون وكذا تفعيل مختلف الخصائص التي يتيحها هذا الجهاز. ولا جدوى من الحديث عن تعزيز البنية المينائية إذا ظلت أبوابها مشرعة أمام الفوضى والارتجال في ظل غياب تنسيق حقيقي بين المتدخلين. لدى فالرأي العام المهني من حقه أن يغضب، ومن واجبه أن يطالب بكشف الحقائق كاملة، ومحاسبة كل من قصّر أو تواطأ أو تستر.
فقد حان الوقت لوضع حد لمنطق “الاستثناء” الذي يُسوّق مع كل انفلات. لا يمكن أن يستمر قطاع استراتيجي كالصيد البحري رهينة عشوائية أو ضعف في التنسيق بين الإدارات. المطلوب اليوم نقاش جدي وصارم يقود إلى إجراءات عملية على الخصوص ، تسجيل دقيق لهويات الأطقم والتحقق الدقيق من هويات كل المشتغلين مع هذه المراكب بحرا وبرا ، هذا مع تشديد المراقبة عند بوابات الموانئ، مراجعة عقود الحراسة وتدريب عناصرها، وتوضيح بروتوكولات التدخل بين الإدارات بما فيها السلطات. والأهم من ذلك كله، تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة حتى لا يبقى القانون مجرد شعارات تعلق على الجدران.
إن حادثة “الحسين” تكشف بحق خللاً بنيوياً لا يمكن إصلاحه بتطمينات ظرفية أو أجوبة ملغومة. فما جرى هو ناقوس خطر يفرض على الفاعلين المهنيين مساءلة كل من يُفترض أنه مؤتمن على أمن الموانئ وسلامة البحارة وحراسة الحدود. وإذا لم يفتح هذا الملف بجرأة وبشفافية، فإننا نخاطر بأن تتحول مثل هذه الحوادث من استثناء مقلق إلى قاعدة خطيرة تُقوّض ثقة الجميع في المنظومة البحرية .