رافعات معلقة بين الحلم والمصلحة !

1
Jorgesys Html test

بقلم: عبد الخالق جيخ *

قبل أن يحمل اسم “أليوتيس”، لم يكن المعرض الدولي للصيد البحري سوى نافذة صغيرة يطل منها المغرب بخجل على تجارب العالم البحرية. لم يكن حدثاً كبيراً، بل تظاهرة متواضعة في فضاءٍ قرب شاطئ مدينة أكادير، تحت رعاية غرفة الصيد البحري. لكن خلف تلك الصورة البسيطة، كان هناك رجل استثنائي اسمه عبد الفتاح زين، يحرّك الأحلام كما لو كان يخطّط لمستقبل أمة من بوابة البحر.

كان الرجل يعمل بصمت، ينسج خيوط الأمل بإصرار لا يُضاهى، ويطوف بين المعارض الأوروبية كما لو كان بحّاراً يبحث عن نجمة تهديه الطريق. لم يكن يبيع وهماً، بل كان يحمل المعرض في قلبه، ينقله من بلد إلى بلد، يبحث عن شركاء، عن مؤسسات، عن تجارب يمكن تكييفها وتوطينها، عن فكرة تُلهم قطاعاً بأكمله.

أحد هذه الإلهامات جاءت من ميناء لا روشيل الفرنسي. هناك، شاهدتُ مشهداً بسيطاً لكنه شديد الدلالة: مركب صيد يفرغ صناديقه باستخدام رافعة ثابتة، بهدوء ودون جلبة. لا صراخ، لا عرق، لا اكتاف منحنية تحت ثقل السمك. مجرد تفاعل سلس بين الحديد والبحر، كرقصة متناغمة تحفظ للبحّار كرامته.

تأثرت بالمشهد، وقررت أن أنقل الفكرة. خلال اجتماع لمجلس إدارة المكتب الوطني للصيد البحري – حيث كنت عضواً حينها – عرضت المشروع، فقُوبل بترحيب واسع. واتخذ القرار: تجهيز الموانئ المغربية بروافع هيدروليكية، لا فقط للنجاعة، بل كوسيلة تضمن للبحارة كرامة عملهم، وتعيد ترتيب العلاقة بين الإنسان والبحر.

لكن كما يحدث دائماً في قصصنا، ما إن يقترب الإصلاح من أن يصبح واقعاً، حتى يطلّ وجه “المصلحة الخفية”. لم تستسغ شبكات التهريب هذا التطور. فهؤلاء، الذين يصرّحون بصيد “الشرن” لتمرير “الكالامار”، وجدوا في الرافعات عدواً يفضح أسرارهم. فالرافعة شفافة، تسجل وتُظهر، تكشف حجم الصيد ونوعه، وتغلق منافذ التلاعب. ولذلك، كانت النتيجة محسومة: تُركت الروافع للصدأ. أُهملت كما تُهمل الأفكار الجريئة في قطاع لا يزال، للأسف، يهادن الفساد ويخاصم المبادرات الشريفة.

اليوم، وبعد سنوات من ذلك الحلم الموءود، رأيت في ميناء الوطية بطانطان مركباً حديثاً يستخدم رافعة كهربائية تُنزل الصناديق من سطح المركب إلى الرصيف بانسيابية تذكّرني بتلك اللحظة في لا روشيل. شعرت بفرحٍ آنيّ، لكنه سرعان ما تحوّل إلى مرارة مزدوجة: مرارة لما كان ممكناً أن نحققه لو سارت الأمور كما يجب، ومرارة لما فشلنا في صيانته بسبب منطق الصفقات والالتفافات.

إن قضية الرافعات ليست تفصيلاً تقنياً. إنها اختزال لطريقة تفكيرنا في الإصلاح: هل نريده فعلاً؟ أم أننا نُفضّل تأجيله حتى لا نُغضب “أصحاب الامتيازات”؟ هل نحن قادرون على الدفاع عن مشاريع تضع الإنسان – خصوصاً العامل والبحّار – في قلب المعادلة، أم أننا سنظل رهائن لتجّار الظل الذين يتغذون على فوضى الموانئ وهشاشة القانون؟

إن معرض أليوتيس اليوم أصبح واجهة راقية، لكنه يظل في حاجة إلى أن يُذكّر نفسه بجذوره، ويعيد الاعتبار لمن أطلقوا شرارته الأولى بإيمان وعزيمة. والأهم من ذلك، أن يكون نقطة انطلاق لتغيير حقيقي، لا مجرد مناسبة للصور والخطب. فالمغرب بلد بحري بامتياز، ويستحق أن تكون موانئه بكرامة رجاله، وبمستوى طموحاته. فقط، علينا أن نقرر: هل نريد فعلاً أن نُبحر إلى الأمام… أم أننا نُفضّل أن نراوح مكاننا، ونترك الرافعات تصدأ في صمت؟

*عبد الخالق جيخ فاعل كنفدرالي سابق مدون مهتم بشؤون قطاع الصيد 

Jorgesys Html test

تعليق 1

أضف تعليقا

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا