مر حفل تسليم الشهادات لخريجي المعهد العالي للدراسات البحرية دون أن تطرح بشأنه الأسئلة الضرورية، خصوصا أن وزيرين مشرفين على قطاع الموانئ، الرباح وتابعه بوليف، غابا عن «الحفل» لأسباب غامضة.
وبينما غاب الوزيران حضر الوزيران الفعليان وهما مدام نادية العراقي، مديرة الوكالة الوطنية للموانئ، ومدير «مرسا ماروك» محمد عبد الجليل، الذي طالب النائب بوانو في رسالة إلى رئيس الحكومة بافتحاصه.
وهذا الحضور لم يكن عبثيا، بل إنه حمل في طياته رسالة دعم واضحة للإدارة الجديدة للمعهد العالي للدراسات البحرية، مفادها أن «لوبي» وزير التجهيز السابق كريم غلاب لازال يسيطر على قطاع الموانئ، الذي ظل لسنوات طويلة شبيها بإقطاعية يصعب الاقتراب منها وبالأحرى الاطلاع على أسرارها.
فالقطاع، ومنذ ثلاث سنوات من وصول عزيز الرباح إلى وزارة التجهيز، وهو يبدي مقاومة شرسة لكل تدخل من طرف الوزير أو رجال ثقته.
والواقع أنه طوال عشرات السنين تشكل داخل قطاع الموانئ، ونظرا للأموال الطائلة التي تتحرك فيه، لوبي عشائري هيكله وزير التجهيز السابق كريم غلاب عندما عين مقربين منه على رأس مؤسسات ومقاولات عمومية مينائية وبحرية استراتيجية .
وقد تم تسييج هذه الإقطاعية العشائرية وهيكلتها عبر ما سمي بالإصلاح المينائي ابتداء من سنة 2006، بتفكيك مكتب استغلال الموانئ والإبقاء على مهام «سيادية» في يد الإدارة ومهام «ضبطية» هي اختصاص الوكالة الوطنية للموانئ المحدثة في هذا الإطار، مع تمكين شركة «مرسا ماروك»، المقاولة العمومية التي سيطرت على ممتلكات مكتب استغلال الموانئ، بدعوى إدخال المنافسة وتحرير القطاع، بينما بقيت هذه الشركة هي تقريبا المسيطرة على أرصفة الاستغلال بمجموع موانئ المغرب، باستثناء ميناء طنجة المتوسط لاعتبارات تتعلق بطبيعة الأنشطة الممارسة به.
وطيلة كل هذه السنوات الطويلة ظلت المؤسسات المشرفة على قطاع الموانئ بعيدة عن أعين المراقبة، وبعيدة عن أقلام الصحافيين، وبالتالي ظل مشكل الحكامة داخل هذه الوكالات المينائية والمقاولة العمومية منسيا وبعيدا عن التناول.
اليوم يرمي رئيس الفريق النيابي للحزب الحاكم بحجر ثقيل في مياه هذه الموانئ التي تبدو راكدة من الفوق، غير أنها تمور وتموج في العمق بفعل التيارات القوية المتصارعة داخلها. وهذا الحجر الثقيل هو الرسالة التي بعثها بوانو إلى رئيس الحكومة يطالبه فيها بإجراء افتحاص لحسابات شركة «مارسا ماروك».
فمحمد جمال بن جلون بعد مروره بالإدارة المينائية وبديوان حصاد حين كان وزيرا للتجهيز، تولى تطبيق «الإصلاح المينائي» تحت رعاية كريم غلاب بحل مكتب استغلال الموانئ واقتراحه ليدير الوكالة الوطنية للموانئ التي تم تعيينه على رأسها مديرا عاما. وكان أول عمل قام به من أجل تطبيق «الإصلاح» الذي جاء من أجله، هو كراء عمارة بسيدي معروف بالدار البيضاء كمقر للوكالة الوطنية للموانئ التي يديرها بمبلغ خمسين مليون شهريا.
وعلى عهد غلاب تم تعيين بن عبد الجليل الذي يعتبر واحدا من أنشط أعضاء شبكة غلاب المينائية سنة 2006، كمدير عام للشركة العمومية «مرسا ماروك»، وريثة مكتب استغلال الموانئ، والذي لم يكن يعاني من أي عجز بحيث كانت تقدر ميزانيته بمليارات الدراهم.
وعلى عهده تم تفكيك الرافعة المستوردة باهظة الثمن التي بيعت في الخردة، والتي لازال الرأي العام يتساءل عن مصير ملفها وعن سبب صمت هيئة حماية المال العام عن إمداد الرأي العام بمآل هذا الملف التي كانت سباقة إلى فتحه في عز الربيع العربي.
وعلى عهد غلاب أيضا تم تعيين نادية العراقي بظهير باقتراح من هذا الأخير، مديرة عامة للوكالة الوطنية للموانئ، بعد تعيين جمال بن جلون كاتبا عاما للوزارة، تم تمتيعها بهذا المنصب الذي يدر عليها دخلا معلنا يزيد عن 50.000 درهم لتحافظ على أسرار وامتيازات العشيرة، ومن ضمنها إبقاء مقر الوكالة بالعمارة إياها.
غلاب لم يكتف بوضع هذه الأسماء فقط، بل استقدم نجلاء الديوري من ميناء المحمدية لتشغل مديرة الموانئ والملك العمومي البحري في نهاية 2009، وخلال إقامتها بهذه المديرية مكنت زوجها المسؤول السابق بمكتب استغلال الموانئ وأحد مساعدي حصاد المقربين أثناء توليه مسؤولية المكتب المذكور، باعتباره مالكا لأحد مكاتب الخبرة والاستشارة بالمحمدية، من تمديد لأربع مرات لصفقة دراسة حول الاستراتيجية المينائية.
وبسبب رياح الربيع العربي وظهور حركة «عشرين فبراير» تكيفت هذه الشبكة مع المعطيات الجديدة وتحصنت بسلاح التعيينات التي استمرت كما المعتاد.
فعمل حصاد من خلال مجلس رقابته لوكالة طنجة المتوسط، على تعيين زوجة صديقه نجلاء الديوري مديرة عامة للسلطة المينائية لميناء طنجة المتوسط، حيث تستفيد من دخل يفوق 150.000 درهم شهريا دون احتساب امتيازات المنصب. أما جمال بن جلون فلازال يستفيد من إقطاعية العشيرة، إذ مكنته الشبكة من إدارة شركة عمومية لبناء ميناء «ناضوريست ميد» رصدت له 8 مليارات درهم وهو رأسمال مكون في غالبيته من مساهمات الوكالة الخاصة طنجة المتوسط، الذي توجد على رأسه نجلاء الديوري والوكالة الوطنية للموانئ التي تسيرها نادية العراقي، التي مكنت زوج صديقتها الديوري من صفقة تقييم نتائج «الإصلاح المينائي» قيد الإنجاز من طرف الوكالة الوطنية للموانئ.
على عهد كريم غلاب كانت المرأة القوية «بورارة» هي الدينامو النشيط التي تربط بين الديوان الوزاري لغلاب ورؤساء هذه المؤسسات والشركات العمومية المينائية.
وبعد قضاء وزير التجهيز الرباح ثلاث سنوات على رأس هذه الوزارة «الأم» التي تعتبر من أكبر وأهم الوزارات، بسبب إشرافها على الطرق والموانئ والمطارات والنقل البري والبحري والجوي، فلم يستطع تقليم سوى ظفر واحد من الأظافر التي تركها غلاب مغروسة في القطاع.
ولعل إعفاء وزير التجهيز والنقل لهشام نهاموشة، مدير الطرق ومدير ديوان كريم غلاب سابقا، ومدير الملاحة التجارية على عهد الوزير الحالي، يدخل في إطار سياسة كسر العظام التي تبناها الرباح ضد رجال غلاب في التجهيز والنقل.
ولم يكتف الرباح بإعفاء مديره في الملاحة التجارية، بل إنه يسابق الزمن لكي يعرضه على المحاسبة بسبب خروقات تورط فيها بعد صفقة غامضة ربحتها شركة لا تتوفر فيها الشروط المطلوبة.
العارفون بكواليس تشكيل الحكومة بعد فوز العدالة والتنمية في الانتخابات، لازالوا يذكرون أن حزب الاستقلال رشح هشام نهاموشة لمنصب وزارة التجهيز والنقل، غير أن كبيري مفاوضي حزب العدالة والتنمية تشبثوا بحقيبة التجهيز وهددوا بالانسحاب في حالة ما إذا سحبت منهم حقيبة التجهيز، مثلما هدد الرميد بقلب الطاولة في حالة ما إذا حرموه منحقيبة العدل التي كانت بدورها ستؤول لحزب الاستقلال.
اليوم يبدو أن أياما عصيبة تنتظر المسامير التي زرعها حزب الاستقلال في المؤسسات والشركات العمومية الاستراتيجية، غير أن الظاهر أن الحزب الحاكم يستقوي فقط على المؤسسات التي لدى بنكيران اليد الطويلة في تعييناتها، أما المؤسسات الاستراتيجية مثل مؤسسات الموانئ، فإن الرباح يقف أمامها مفزوعا، وغالبا ما يترك مقعده فارغا، مثلما حدث في حفل تسليم شهادات التخرج لطلبة المعهد العالي للدراسات البحرية.
ويبدو أن «الحلف المقدس» بين إخوان بنكيران ورفاق نبيل بنعبد الله ينص على شن حملة تطهير في صفوف المؤسسات والوزارات التي زرع فيها حزب الاستقلال رجاله.
والدليل على ذلك هو الحملة التي شنها الوردي وزير الصحة، وكاتبه العام العلوي البلغيثي المقرب من العدالة والتنمية، على المديرين الجهويين للوزارة والتابعين لحزب الاستقلال بكل من أكادير وبني ملال والبيضاء وآسفي، إضافة إلى فاس التي يشغل بها المدير الجهوي لوزارة الصحة منصب النائب الأول لرئيس مجلس مدينة فاس، الذي ليس سوى شباط، الأمين العام لحزب الاستقلال.
المصدر : جريدة الأخبار