في المغرب حراك مدني متزايد لمواجهة نفايات البلاستيك والفحم والفوسفات، التي تصيب الشواطئ الغنية بالثروة السمكية. هل ينجح هذا الحراك في دفع السلطات إلى تفعيل قوانين تحمي هذه الثروة من التراجع؟
أخبار جيدة وسمعة حسنة عن نمو الاقتصاد المغربي بصناعات تحويلية معقدة كصناعة السيارات ومكونات الطائرات، وطاقات متجددة واعدة وفي مقدمتها الطاقة الشمسية. غير أن هذه الصورة الوردية، التي تعززت خلال السنوات الخمس الماضية تخبو بعد التعرف على مشاكل البيئة الناتجة عن التلوث المتعدد المصادر الذي يصيب عدة مناطق على ضفتي الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط وعلى تقاطعمها الحيوي للتجارة الدولية قرب ميناء طنجة ومضيق جبل طارق. ويبدو أن لنعمة الجغرافيا التي يهبها موقع هذه السواحل الغنية بالأسماك والطرق التجارية الدولية مساوئها أيضا، لأن السفن العابرة تترك انبعاثات ضارة وترمي مخلفات سامة في مياه الأطلسي الهادرة. وهو الأمر الذي يترك آثارا اقتصادية سلبية متزايدة في مقدمتها تراجع الثروة السمكية، التي تعد أحد أهم ثروات المغرب الطبيعية عبر العصور.
تلوث عابر للقارات
في مؤتمر المناخ العالمي “كوب 23″، الذي استضافته مدينة بون الألمانية يتجول الشاب المغربي السالك الصغير بجلبابه الصحراوي المغربي الأزرق وبيده “منشورات” توثق جوانب مما يحل بالبيئة من كوارث في بلده، الذي يتمتع بشواطئ مترامية على ضفتي البحر المتوسط والمحيط الأطلسي. هذا الشاب الذي ينشط في حماية البيئة من خلال جميعة “أجيال للتربية والتنمية المستدامة” لفت أنظار عدد كبير من المشاركين في المؤتمر، الذي عُقد في الفترة من الـ 6 إلى الـ 17 من نوفمبر الجاري، إلى مشكلة إقليم طرفاية، الواقع جنوب البلاد، مع نفايات البلاستيك، التي تتراكم في مياه الأطلسي وعلى شواطئه. ومن تبعاتها تسميم هذه الشواطئ والإضرار بالصحة وتدمير الثروة السمكية.
وكانت المفاجأة أن مصدر هذه النفايات ليس سكان ومؤسسات المنطقة فقط، بل أيضا دول وقارات تبعد آلاف الكيلومترات عنه كالنرويج والصين وإندونيسيا وأمريكا. وهناك أيضا المئات من سفن الصيد البحري الأوروبية وغير الأوروبية، التي تصطاد الأسماك بشكل جائر وتقوم بتصنيعها على متنها ومن ثم تلقي بنفاياتها في مياه المحيط الأطلسي مقابل الشاطئ المغربي. ومن هنا فإن الشاب يتحدث ومعه حق عن “مشكلة تلوث عابرة للقارات”، يعاني منها الساحل المغربي في إقليم طرفاية وغيره من الأقاليم الأخرى. ومن هنا أيضا تأتي مطالبته المحقة للدول مصدر هذه النفايات بمساعدة المغرب تقنيا وماليا من أجل التخلص منها.
تلوث الفحم والفوسفات
غير أن تلوث الشواطئ المغربية ليس مصدره فقط نفايات البلاستيك السامة، بل أيضا المصانع ومحطات الطاقة الحرارية، التي تعمل بالفحم في مدن كالمحمدية والقنيطرة. ففي المحمدية على سبيل المثال تكرر في شهر ماي الفائت رمي مخلفات المحطة الحرارية من الفحم بمياه المحيط الأطلسي بكميات تركت جزيئاتها وغبارها الأسود على رمال الشاطئ وعلى أجسام مرتاديه من السياح والمواطنين، على حد تعبير الناشطة البيئية المغربية نادية حمايتي في حديث مع دوتش فيليه عربية. ويتحدث الكثيرون عن مشاكل كثيرة يعاني منها جهازهم الهضمي وعن أمراض جلدية تصيب من يسبح في مياه المحيط هناك. ومع أنه لا توجد إحصائيات ومعطيات دقيقة حول ذلك، فإن الشكوك تتزايد من أن مصدر الأمراض الهضمية هو الأسماك الملوثة.
ويتناول السكان هناك الأسماك بكثرة لاسيما وأن المغرب من أغنى بلدان العالم بها. وفي مدن أخرى مثل مدينة آسفي الساحلية تتسبب نفايات الفوسفات والمصانع الكيميائية، التي تعالجه هناك قبل تصديره إلى الخارج بتلوث بيئي يصفه ناشطون ووسائل إعلام بالمروع. ويعود السبب في ذلك إلى التوسع المستمر في طاقة المصانع الكيميائية والشحنات، التي يتم تصديرها دون ضوابط. حراك مدني فاعل اتجاه الوضع البيئي نحو الكارثة فيما يتعلق بالأضرار الصحية وتكاليفها العالية إضافة إلى تلوث الثروة السمكية وتراجعها في أكثر من منطقة ومدينة ساحلية؛ دفع النشطاء المغاربة في مجال البيئة وجمعياتهم إلى قرع ناقوس الخطر في وجه المستهترين. وهو الأمر الذي أدى إلى نمو الحراك المدني ضد التلوث على حد تعبير نادية حمايتي.
ويبدو أن هذا الحراك المتزايد دفع السلطات المعنية إلى التوقف عن بعض التجاوزات الخطيرة كتلك التي حصلت في المحمدية والإعلان عن التحقيق فيها. غير أن المشكلة في أن الأمور لا تسير بشفافية ولا يتم الإعلان عن نتائج التحقيق ومحاسبة المسؤولين الذين يضربون عرض الحائط بالقوانين المتعلقة بحماية البيئة. المشكلة إذاً ليست في غياب القانون بقدر ما هي في تجاوزه بسبب العراقيل، التي تقف أمام آليات تطبيقه. ومن هذه العراقيل على سبيل المثال لا الحصر تداخل المسؤوليات بين وزارات وهيئات عدة وعدم “وجود جهة تحدد المخالفات ولديها الصلاحيات لفرض العقوبات الرادعة”.
ومما يشير إلى إهمال البيئة غياب وزارة متخصصة بشؤونها، إضافة إلى أن كاتبة الدولة المتخصصة بالتنمية المستدامة تابعة لوزارة الطاقة والمعادن، التي تشرف على الكثير من الصناعات الأساسية الملوثة للبيئة.
الاستهتار وغياب الوعي
غير أن مشكلة التلوث ليست ناتجة فقط عن غياب الآليات الرادعة واستهتار وسلبية الجهات الرسمية إزاء مشاكل بيئية خطيرة، بل أيضا بسبب غياب الوعي البيئي بشكل مخيف ومريع في المجتمع المغربي. وهو الأمر الذي يفسر رمي الناس للنفايات البلاستيكية وغيرها على الشاطئ وحتى بالقرب من حاويات النفايات على حد تعبير نادية حمايتي، التي تطالب بتوعية بيئية تشمل المسؤول والمواطن على حد سواء. كما تطالب أيضا بتفعيل تطبيق القوانين، التي تحمي البيئة من خلال آليات مستدامة للتطبيق والمراقبة وفرض العقوبات الصارمة إذا تطلب الأمر.
الطاقة النظيفة والتنمية المستدامة
يتمتع المغرب في الخارج بسمعة جيدة في مجال الطاقة كونه يبني مشاريع كبيرة للطاقات المتجددة، بينها أضخم محطات الطاقة الشمسية في العالم جنوب البلاد بمنطقة ورزازات. ولا تتناسب هذه السمعة مع توجهه لتوسيع محطات الطاقة الحرارية التقليدية (مثل محطتي المحمدية والقنيطرة) التي تعتمد على الفحم وتطلق المزيد من الانبعاثات السامة الشديدة الضرر بالإنسان والبيئة. ومن هنا ومن زاوية التكاليف العالية للتلوث على موازنة الدولة والنفقات العامة فإن السبيل الأفضل لتعزيز قدرة قطاع الطاقة على توفير متطلبات التنمية هو بناء محطات طاقة متجددة إضافية، بدلاً من توسيع القائمة بالاعتماد على مصادر الطاقة الاحفورية.
ويزيد من أهمية ذلك أن الاقتصاد المغربي ينمو بشكل واعد وبسرعة لافتة. وهو الأمر الذي يتطلب محطات طاقة مستدامة لا تتاثر بتقلبات أسعار النفط والفحم والغاز في السوق العالمية. كما يتطلب أيضا التشديد على إلزام المصانع والشركات بمعايير الحفاظ على بيئة نظيفة، لاسيما تلك المتعلفة بالثروة المائية. وفيما عدا ذلك لايمكن تحقيق تنمية مستدامة تحافظ على مصادرة الثروة الطبيعية المتجددة وتحمي صحة الناس وصحة قوة العمل اللازمة لهذه التنمية.
وهنا لابد من الإشارة إلى أن خبرات الكثير من الدول ومن بينها الصين والهند تشير إلى التكلفة الاقتصادية العالية الثمن لتنمية صناعية لا تراعي متطلبات بيئة نظيفة. كما أن ألمانيا مرت بتجارب قاسية كلفتها الكثير قبل أن تضع أحد أفضل نظم الحفاظ على البيئة في العالم.
البحرنيوز : موقع دويتشه فيله بتصرف