من الصيد الإنتقائي إلى الصيد الذكي .. نحو ثورة هادئة في تدبير مصايد المملكة

1
Jorgesys Html test

بقلم: حاتم العكير *

في عام 2025، لا يزال الخطاب المهيمن في قطاع الصيد البحري يدور حول مفاهيم مستهلكة مثل “الصيد المستدام” و”الصيد الانتقائي”. لكن السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح اليوم هو:  ألم يحن الوقت لتجاوز هذه العتبات المفاهيمية والانتقال إلى أفق أكثر دقة وفعالية؟ نقصد بذلك، “الصيد الذكي”. من خلال تسخير “الذكاء” لجمع المعلومات ومعالجتها، بل وأكثر من ذلك لاستنتاج الإجراءات ،الحلول و التدابير  ..

فكما أن العالم بأسره يعيد ترتيب أولوياته بناءً على الطفرة التي أحدثها الذكاء الاصطناعي في كل القطاعات، من المالية إلى الصحة، فإن قطاعًا استراتيجياً ومركباً كالصيد البحري، لا يمكن أن يبقى خارج هذه الدينامية، خصوصاً وأنه من أكثر المجالات التي تتقاطع فيها المعرفة العلمية بالسلوك الإنساني، والتكنولوجيا بالموارد الطبيعية، والسياسات العمومية بالأنظمة البيئية. وبمعني أقرب فالقطاع اليوم هو في حاجة لمعدات صيد ذكية وبحار ذو سلوك ذكي وأبحاث علمية ذكية ثم إدارة وتخطيط ذكين.

فعندما نتحدث عن “الصيد الذكي”، فنحن لا نتحدث فقط عن تطويع تكنولوجيا جديدة أو ابتكار معدات متقدمة، بل عن مقاربة متكاملة تعيد صياغة علاقة الإنسان بالبحر. هذه المقاربة تتطلب النظر إلى الذكاء في الصيد كمنظومة متداخلة من أربع زوايا مركزية. إذ يتعلق الأمر  بتكريس معدات صيد ذكية، حيث لا يعني الأمر فقط تحسين أدوات الصيد، بل اختيارها على أساس قدرتها على تقليص الأثر البيئي، وتفادي المصطادات العرضية، وتحقيق أقصى درجات الانتقائية. ثم تأطير البحارة في السلوك الذكي بما يجعل الصياد يتمتع بالوعي والمعرفة والقدرة على اتخاذ قرارات مهنية مبنية على معطيات علمية وسلوكية، بعيداً عن منطق الاستنزاف السريع.

وفي الزاوية الثالثة نناقش القيام بأبحاث علمية ذكية تُنتج البيانات بشكل مستمر، حيث يكون الذكاء في تفسيرها وتوظيفها لاتخاذ قرارات فعالة. لأن السؤال المطروح هناك يرتبط بكيفية تأويل الفرق بين بيانات الصيد الفعلي وتوقعات تقييم المخزون. وهنا تبدأ العلمية وتنتصر المعرفة. فيما تلامس الزواية الرابعة سلطات القرار حيث الحاجة لإدارة وتخطيط ذكيان، بمعنى  إدارة تعتمد على تحليل البيانات في الزمن الحقيقي، تتجاوز منطق القرارات الموسمية البيروقراطية إلى قرارات ديناميكية مرنة، تتفاعل مع المستجدات.

فقد يتساءل البعض لماذا الحاجة إلى هذه المقاربة في مجال معقد بطبيعته كالصيد البحري؟ والجواب هنا ببساطة لأن هذا التعقيد هو ما يفرض علينا حلاً أكثر تعقلاً وذكاءً. فالصيد البحري ليس فقط مهنة، بل مجال شديد التشابك، تتداخل فيه العوامل الطبيعية (حالة البحر، التيارات، المناخ…) بالعوامل التقنية (نوع الشباك، توقيت الصيد، أعماق المياه…) والعوامل الاقتصادية (الطلب، السوق، التثمين…)، ناهيك عن البعد الاجتماعي المرتبط بالتشغيل وبنية المجتمعات الساحلية.

حاتم العكير

كل هذا يجعل من الذكاء في الصيد ضرورة لا خيارًا. ولهذا أطرح، من موقعي كخبير ميداني، جملة من الأسئلة التي نادراً ما تُطرح، لكنها ضرورية لإحداث التحول الحقيقي: هل  مفهوم التداخل recoupement يطبق في مجال الصيد البحري؟ فهل  نأخذ بعين الاعتبار تأثير تقنيات الصيد المختلفة على طبيعة المخزون؟ وما مدى تأثير اختيار معدات معينة على التوازن البيئي للصنف المستهدف؟ فهل نؤول الفرق بين معطيات الصيد الفعلي وتقييماتنا الأولية؟ وما الدور الآخر الذي يمكن أن تلعبه بعض أنظمة رصد السفن في تقييم و إدارة مختلف مناطق الصيد؟ وهل نستثمر فعليًا في معطيات جريدة الصيد لتحسين قراراتنا الإدارية؟ وهل نحن على دراية بالفروق التي تُحدثها دورات الصيد النهاري والليلي في جودة المصطادات؟ ثم كيف تؤثر أنماط صيد صنف معين على صنف آخر غير مستهدف؟ وهل حان الوقت بالفعل لإعادة النظر في طرق تحديد المقاس التجاري القانوني لبعض الأنواع، أو حتى تحديد فترات منع جزئي في اليوم وليس فقط عبر السنة؟

إن “الصيد الذكي” يعني أيضاً أن نعترف بعدم كفاية التدخلات المعزولة، وأن الحاجة أصبحت ملحّة لتطوير نظام رقمي موحد ومفتوح للبيانات البحرية. نظام يمكن أن يربط بين الرصد الفضائي لحركة المراكب، وعينات المصطادات اليومية، ودينامية الأسعار، وكذا التقييمات البيولوجية للمخزون، ثم المعطيات المناخية اللحظية. فهذه البنية الرقمية ستمكننا من اتخاذ قرارات فورية مثل فرض منع جزئي للصيد في مناطق معينة خلال اليوم، أو إغلاق مؤقت لمناطق حساسة، أو  إعادة النظر في تحديد المقاس القانوني لبعض الأسماك وكذا الحسم في طريقة تحديد هدا المقاس. ناهيك عن تحديد معدات بعينها لكل نوع سمكي حسب الموسم والمكان.. لا شك أن هدا العمل سيتطلب الكثير من الجهد الجماعي و الكثير من الإحصاء الرقمي ، لكن المحافظة على الثروة السمكية قد يبرر دالك.

وعلى سبيل الختم فالدفاع عن الثروة السمكية لم يعد قضية بيئية فحسب، بل هو قضية سيادية وإنسانية، تتعلق بالأمن الغذائي، بعدالة الوصول إلى الموارد، وباستمرارية حياة ملايين العاملين في هذا القطاع. ولهذا، فإن “الصيد الذكي” ليس رفاهية ولا ترفًا أكاديميًا، إنه الترجمة العملية الوحيدة الممكنة للحكمة البحرية، حيث تلتقي المعرفة بالضمير، والتقنية بالقيم، والسيادة بالاستدامة. فلنمنح للبحر ما يستحق عقلاً واعيًا، لا يدًا عمياء. وهو توجه يحتاج بالفعل للكثير من الجهد الجماعي والكثير من الإحصاء الرقمي، إلا أن رهان المحافظة على الثروة السمكية قد يبرر دالك.

 *رأي كتبه للبحرنيوز : العكير حاتم خبير متخصص في الصيد البحري معتمد لدى السلطات القضائية

Jorgesys Html test

تعليق 1

  1. في نفس السياق وللإجابة على التساؤلات المشارة عبر المقال يمكنكم الاطلاع على الروابط التالية:
    1- مفاهيم الإدارة المطبقة على صيد الأسماك على نطاق صغير: الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية. الفاو 1983.
    تُظهِر مصايد الأسماك البحرية في جميع أنحاء العالم ازدواجيةً في الأداء، تتمثل في تعايش مصايد الأسماك الصغيرة، أو الحرفية، جنبًا إلى جنب مع مصايد الأسماك واسعة النطاق، أو الصناعية.
    لا تقتصر هذه الثنائية على حجم العمليات فحسب، بل تمتد أيضًا إلى نوع التكنولوجيا المستخدمة، ودرجة رأس المال، وتوفير فرص العمل، والملكية.
    وعلى عكس مصايد الأسماك واسعة النطاق، تعتمد مصايد الأسماك الحرفية على أصحاب القوارب، وتتطلب عمالة كثيفة، ورأس مال ضئيل، وتكاد تنعدم فيها التكنولوجيا الحديثة.
    https://www.fao.org/4/X6857F/X6857F00.htm#toc
    2- الموارد البحرية الحية وتنميتها المستدامة. الفاو 1996.
    https://www.fao.org/4/v5321f/V5321F00.htm#TOC
    3- تغير المناخ ومستقبل مصايد الأسماك الإقليمية. تحليل تعاوني. الفاو 2004.
    https://www.fao.org/4/y5028f/y5028f00.htm#Contents

اترك رداً على عبدالرحيم الهراس إلغاء التعليق

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا