وقع الخبر كالصاعقة .. لم نكن لنصدق الخبر.. “مات ميمون الرايس” .. سرعان ما جرت الأحداث وتحركت بسرعة لتعود بي لأول لقاء جمعني بالراحل ميمون الرايس فقيد المتوسط، كانت في زيارة لفرنسا قيبل سنوات، حينها كنا في زيارة إلى لوريون لإستطلاع قطاع الصيد البحري المدينة المعروفة بمدينة الخمس موانئ .
مع الرايس ميمون كل شيء ممكن، وهو المتشبع بثقافة الجهة الشرقية، والمتجدر في الحنطة التي قضى بها عقودا وعقودا، لكن الرجل كان شابا في الفكر متفتحا على الأخر، ومحبا للإستكشاف، حتى وهو يكبرنا في العمر بعقود ، إلا ان هذه الهوة بين الأجيال إنمحت وإختفت ، فأحسسنا أننا نتعامل مع روح مرحة مفعمة بالشباب. يحب الرجل المشي، فتفوق علينا بخطواته السريعة حين كانت اللحظة تحتاج للسرعة، وتثاقلت إلى حد العياء حينما كان الأمر يتعلق بمعالم وأماكن تثير الإنتباه. لأن حسب تعبير الراحل، التعرّف على المدن ومعالمها الكبرى واسرارها الدفينة، تجد ضالتها في “النمرة 11” كناية على المشي على الأقدام.
إسيقضنا باكرا في أحد أيام الزيارة، كان الطقس ممتزجا ببرودة تصاحبها بعد القطرات المطرية، زادت أجواء الفجر حماسا .. توجهنا إلى ميناء الصيد، لحضور عملية ولوج الأسماك إلى سوق السمك، كان السوق مخالف لأسواقتنا في المغرب، طريقة ولوج السمك، وكذا طريق العرض، وعملية الشراء الإلكترونية “الدلالة الإلكترونية”، وخدمات التوصيل، كل هذا مر أمام أعيننا ترافقه زفرات تؤكد تحصّرنا عن وضعية أسواق موانئنا، كان السؤال متى نصل لهذا المستوى من التسويق؟ لكن الرايس مينون إستقرت أعينه على صناديق تحمل السمكة والسمكتين، وتعرض بدورها للشراء. عبر الرجل عن إمتعاضه وخوفه من أن تصبح سواحلنا شحيحية إلى هذا الحد.. لكنه بالمقابل سجل إنبهاره لهذه العملية القمّة في العقلنة، خصوصا وأننا في المملكة الأطنان من الأسماك تخرج من الموانئ دون المرور عبر القنوات الرسمية لتجد طريقها للسوق السوداء .
الرايس ميمون كان يتمنى أن يرى تجربة لوريون تُنزّل في المغرب سواء على مستوى تسيير موانئ الصيد، والحضور التعاوني القوي الذي يمسك بزمام كل صغيرة وكبيرة داخل الميناء، لا شيء يترك هناك للصدفة، لأن التعاونية تتولى مسؤولية مختلف مناحي الحياة المهنية، فهناك تختفي التمثيليات، والإدارات.. ويحضر الوعي المهني الذي يدبره المجهز بإعتباره متعاونا، لأن الكل يشتغل هناك كخلية نحل، لضمان تكامل سلسلة الإنتاج.
أتدكر جيدا أن الرايس ميمون إشتاقت نفسه هناك لأكلة مغربية، كلفتنا قطع كيلمترات طويلة من أجل الوصول لأحد المطاعم المغربية بنكهة مراكشية، اول ما سأل عنه الرايس ميمون كان “الحريرة”، لكن ونحن مجتمعون رفقة ثلة من الأصدقاء المشاركين في هذه الزيارة، لم يمل ميمون من الحديث مقارنا بين ما يحدث في ميناء الصيد بلوريون ويحدث بالسواحل المتوسطية، المكتوية بهجامات سمك النيكرو، الذي اجبر الكثير من المراكب عن الرحيل، ودفع مجهزين إلى مغادرة الحنطة وتغيير منطق الإستثمار، كان يتحدث عن سلوكيات أخلّت بالتنوع الذي كانت تعرفه السواحل، طعن الراحل في التمثيلية المهنية، وأكد أن التصادمات المجانية أفقدتها بريقها، وأسكنتها في قوقعات حادت بها عن الغايات، وجعلت منها مكونات صورية أمام الرهانات الكبرى للقطاع، خصوصا وأن الرجل كان حينها رئيسا لملحقة غرفة الصيد البحري المتوسطية بطنجة.
بعد عودتنا إلى المغرب زارني الراحل بمقر موقع البحرنيوز بمدينة أكادير، إسترجعنا معا أهم المحطات، التي رافقتنا في زيارة فرنسا، التي كانت بمبادرة من الكنفدرالية المغربية للصيد الساحلي. وناقشنا الكثير من الأمور المرتبطة بواقع قطاع الصيد بالمنطقة الشرقية، أكد حينها انه ينتظر نهاية الولاية لغرفة الصيد البحري المتوسطية بطنجة، ليسلم المشعل لشخص آخر، خصوصا وأن لديه الكثير من المشاغل تحتاج للتفرغ ، لكنه لم يفقد الحماس في الترافع ، حيث حتى وهو خارج الغرفة ظل حريصا على توجيه المهنيين ، بل رجلا مسموع الكلمة في الأوساط المهنية، لما راكمه من خبرة في العلاقات البيمهنية . لكنه ظل طواقا لإستعادة مصايد الشرق، بريقها المفقود في إنتظار حلول جادة تنهي أزمة النيكرو، الكابوس المزعج الذي أربك المهنيين بالمنطقة. فوداعا صديقنا ميمون الرايس شملتك الرحمة والمغفرة.
وبهذه المناسبة الأليمة، تتقدم أسرة البحرنيوز إلى أسرة الفقيد سواء على مستوى المهنة أو القرابة والعائلة، بأحر التعازي وأصدق عبارات المواساة في هذا المصاب الجلل، سائلا العلي القدير أن يتغمد الفقيد بواسع الرحمات وأن يسكنه فسيح الجنان، ويلهم أهله الصبر والسلوان، إنه سميع مجيب الدعوات.
رحم الله الفقيد بواسع رحمته وأن يسكنه فسيح جناته
رحم الله الفقيد بواسع رحمته وأن يسكنه فسيح جناته.