لماذا تركز البشرية على تاريخها الأرضي دون أن تبدي اهتماما كبيرا بتاريخها الساحلي و المائي؟

0
Jorgesys Html test

elmaghribtoday-أستراليا-الغربية-تبحث-إنشاء-منتزهين-لحماية-امتداد-الساحل-الشمالي1الجواب ستجدونه في كتاب “الساحل البشري” لكاتبه جون غيليس الذي يأخذ القراء في رحلة طويلة و عميقة محاولا تبين حقيقة التاريخ الانساني الأرضي المائي الذي يعتقد الكاتب أنه لا مستقبل واضح مضمون من دون تبيانه و فهمه التامين، ف”  لكي تحكم الطبيعة يجب أن تطيعها  ” دلك هو الاقتباس القديم الذي ينهي به جون غيليس كتابه المثير،  في حين أنه يمكن وصف الكتاب بصفات متعددة ،فان كلمة مثير تأتي أكثر قربا لما يستشعره القارئ ليس فقط من خلال المعلومات المقدمة و لكن كدالك من خلال أسلوب عرضها ،يقدم الكتاب استعراضا علميا بيئيا لسواحل العالم و للتغييرات المهمة التي أصابت بعضها بشكل جلي ،تغييرات في معضمها سلبية موعزة لتدخلات الإنسان الأنانية في النظام الدقيق للبيئات الانتقالية الحساسة بين الأرض و البحر ،غير أن المثير في التناول هو أن الكتاب لا يتوقف عند المنطق العلمي ،بل لربما هو لا يبني عليه ،يستعرض الكتاب الطبيعة الاجتماعية و الثقافية للسواحل و الكيفية التي أثرت بها و تأثرت من خلال هده الجوانب الذهنية البعيدة عن علوم البيئة و الآثار ،يستعرض الكتاب علاقات الجدب و الطرد بين الإنسان و السواحل و البيئات المائية ” حيث بدأ الإنسان القديم حياته قربا من السواحل ليبتعد بعدها عنها متوغلا على اليابسة و مكونا علاقة سلبية شبه عدائية تجاه الساحل ،ليعود مجددا بحنين شديد إلى السواحل عودة اقتصادية ترفيهية سياحية هده المرة ،عودة مدمرة للعيش “على” و ليس “مع” الساحل .

أما أكثر ما في التناول من إثارة في كتاب غيليس فهو ما انصب على الربط الإنساني بين فكرة  جنة عدن ” كجنة أرضية تماما و علاقة الإنسان القديم مع الأرض و الساحل ،يعتقد الكاتب أن الأنظمة الفكرية و الثيولوجية التي أتت لتؤكد ” أرضية ” الجنة قد أسهمت في تثبيت الفكرة العدائية للسواحل على أنها خطوط فاصلة بين أمان الأرض و تهديدات المياه ،باستعراض تاريخ طويل للتعامل الإنساني مع مياه الأرض كلها على أنها بحر كبير و أن العالم بأكمله جزيرة صغيرة خالقا عوالم رعب غامضة في أعماق المياه ،حيث بدت الأعماق التي كان الإنسان يتجنبها دوما مفضلا الإبحار بالقرب من الساحل ،أماكن تسكنها الشياطين و الأرواح الشريرة ،أماكن يقطعها الإنسان بخوف ليصل إلى بر الأمان إلى يابسة أخرى .

 استعرض الكاتب كدلك تاريخ اقامة الانسان على السواحل ،أنواع البيوت التي شيدها هناك ،أنواع الحياة،التغدية و العمل التي وفرتها هده البيئة الانتقالية .و تحدث الكاتب أيضا عن الكيفية التي انتقلت بها السواحل من كونها أماكن كسب للقوت الى أماكن دفاعية حربية حيث استخدمها الانسان كواجهات قتالية لفترة طويلة وصولا الى كونها أماكن اصطياف ترفيهية يعيش عليها الانسان لحظات التأمل و أحلام اليقضة من دون أن ينتبه فعليا الى حقيقتها أو تأثير اختياراته فيها .

يأتي الكاتب كدلك على علاقة الانسان بالمخلوقات الساحلية و التي في حين بدأ الانسان نظرته اليها على أنها جزء من الحياة المتوازنة و اضافة غدائية مكملة له، أصبح انسان اليوم ينظر اليها على أنها طفيليات يجب ازالتها ليبقى له الساحل النظيف القاحل يصطاف عليه من دون أن يستشعره .

  و في هدا المجال يستعرض الكاتب علاقة الانسان بالطحالب المائية، الأصداف، الأسماك، الحيتان، بيد أن أكثر الأمثلة اثارة و تجاوبا مع تجاربنا هو مثال سمك القرش الذي لطالما كان مخلوقا مسالما يعيش بتوازن في بيئته حتى حوله الانسان الى وحش مرعب فتاك من خلال الفيلم الأكثر شهرة “الفك المفترس”،يتعرض الكاتب لعدد من الاعمال الأدبية الاخرى التي أسهمت في تشويه صورة حيوانات مائية و خلق أساطير مرعبة حولها أو في تعزيز أهميتها ووعيها بمحيطها، مثل رواية هيرمان ميلفيل التي حاولت تقديم الحوت على أنه ضحية للانسان و التي استقبلت في وقت نشرها أسوأ استقبال على أنها هلوسة أدبية لكاتب مجنون .

يستمر غيليس في استعراض تاريخ الساحل و كائناته ليس فقط علميا و لا زمنيا و لا طبيعيا بل انه يتعدى هده الأبعاد ،الى تلك الاجتماعية الثقافية والذهنية، الثيولوجية بل و الأدبية الفنية كدلك، إذ يستعرض الكتاب عددا من الاعمال الفنية التي تعاملت مع الساحل و كائناته في محاولة لتبيان النفسية الانسانية المتباينة عبر العصور في معتقداتها و تعاملها مع هدا الساحل.

 و ينهتي الكاتب الى استعراض التعامل التقني الصناعي الحالي الذي في حين أنه قرب الانسان من الساحل في صورة سياحية ترفيهية مكانيا بيد أنه أبعده عنه كما لم يسبق له البعد ذهنيا و نفسيا لكون أعداد هائلة من البشر تزور المنتجعات الساحلية سنويا من دون أن تلقي نظرة على المياه أو تستمتع بها و أن تتعامل معها بأي شكل ، لأن البشر اليوم ينظر الى المياه من بعد ، يتعاملون معها و مع سواحلها الفاصلة على أنها أماكن خطر يمكن لهم أن يستمتعوا بالنظر اليها من دون أن يقتربوا فعليا من روائحها و مخلفاتها .

أخيرا يدرس الكاتب الساحل من خلال المنظور الطبقي، فيبين علاقة الطبقات المختلفة مع هدا الساحل و الكيفية التي غير بها البشرن وفق طبقاتهم الاجتماعية مفاهيمهم تجاه الساحل و أساليب تعايشهم معه، إذ يبين الكاتب أنه في حين كان الساحل مكانا منبوذا بالنسبة الى الأغنياء ابان العقود الوسطى و المتأخرة من القرن التاسع عشر، حيث كان مكانا يسكنه وفق مفهوم الأغنياء الفقراء و اللصوص و ممارسوا البغاء و المهربون و تجار المخدرات، كما  كان ينظر اليه على أنه مكان قذر غير مريح مملوء بالمخاطر و الأوبئة ، ليتحول الوضع في أواخر ذلك القرن الى عكسه  تماما ، فقد سعى الأغنياء الى طرد الفقراء من مناطقهم الساحلية طمعا في العقارات المرتفعة على الساحل و رغبة في صنع أماكن ترفيهية في المناطق التي يكسب منها الفقراء قوتهم .

وإستعرض الكاتب هذه العلاقة الطبقية الاجتماعية استعراضا مفصلا في فصول كتابه مؤكدا أن هده الرغبة الطبقية في تحويل الساحل من مقر للبائسين  الى مراكز ترفيهية للأغنياء هي التي ابتدأت هذه العلاقة الجديدة الأخيرة و التي تبدو مدمرة بين البشر و الساحل .

ولا يتوانى الكاتب في تقديم تحديراته من طريقة التعامل البشري مع الساحل بل و حتى من طريقة التفكير بشكل عميق و حقيقي في الساحل و كائناته لأن نجد وسيلة كي نعيش معه

و ليس فقط عليه ،لأن نتفهمه ليس بوصفه خطا فاصلا بين الأرض و الماء و لكن كجزء منساب لا يتجزأ من الكينونة الحيوية المستمرة للأرض و الماء .

 يدفع كتاب “الساحل البشري” بذهنية القراء الى أفاق جديدة مجبرا ايانا على اعادة النظر فيما نعتقد أنه مسلما ومؤكدا التساؤل الذي بدأ في أول كتابه، لم يا ترى تركز البشرية على تاريخها الأرضي من دون أن تبدي اهتماما كبيرا بتاريخها الساحلي و المائي ؟ ما الدوافع تجاه هدا التجاهل ؟ و ما الذي يفوتنا من تاريخنا و بالتالي من امكانيات صنع مستقبلنا نتاج هذا التجاهل ؟ أين هي الجنة المائية من الوعي الانساني ؟

إن “الساحل البشري” يأخذ القراء في رحلة طويلة و عميقة محاولا تبين حقيقة التاريخ الانساني الأرضي المائي الذي يعتقد الكاتب أنه لا مستقبل واضح مضمون من دون تبيانه و فهمه التامين .

 ترجمة د ابتهال الخطيب 

منقول

Jorgesys Html test Jorgesys Html test

أضف تعليقا

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا